عادل نعمان
وكأننا مجبرون دوما على إثبات إسلامنا للناس، ووالله وهو قسم لو تعلمون عظيم، نحن ورثناه كما ورثتموه، لا نحاربه ولا نعاديه، ولا نهدم ثوابته كما تزعمون، فإذا تحدثنا عن الفروع اتهمونا بهدم الأصول، وإذا تناولنا أحد أئمتهم بنقد ادعوا أننا أنكرنا معلوما من الدين، وهو ليس منه بالضرورة، ولو قلنا الحجاب ليس فرضا، توهموا إباحتنا للعرى ولم نكن كذلك، وهكذا.. من نكون حتى نهدم دينا أقامه وأنزله الله ورعاه وحفظه؟ نحن نرفع عنه ما وضعه الوضاعون والمدلسون والانتهازيون لصالح دنياهم، هل من عاقل يبيح الاعتداء والسلب والنهب والحرق والقتل وبيع الأسرى وسبى النساء والتسرى بهن لإرغامهن على الإسلام؟ إلا إذا كان لمصلحة شخصية أو فائدة دنيوية، ولما نقول هذا ليس من الدين فى شىء فنحن نرفع مقام الدين ومكانته ولا نهدم أركانه وثوابته، والله الذى لا إله إلا هو، دين من عند الله لا عنوان له سوى المحبة والعفو والصفح والسلام، شئتم أم شئنا، هذا هو ديننا الذى نحارب الدنيا من أجله.
ونعود إلى موضوعنا: هل تكون دولة على الخلافة القرشية؟ وإذا عزت علينا نستوردها من مكة، أو هل تكون دولة على الإمامة العلوية الحسينية؟ وإذا ضاقت علينا بحثنا عنها فى بلاد فارس الصفوية أو بلاد واق الواق، وسواء كانت قرشية أو علوية، فهو حكم قبيلة أو جماعة أو طائفة وليس حكم دولة، وعلى الرغم من امتدادها إلى تسعة قرون على النهج القرشى بداية من الخلفاء الأربعة، إلى بنى أمية والعباسيين إلا أنها كانت تحمل أسباب الانهيار والفناء، وكل خلافة منهم تلاشت كفقاعة من الهواء، لم تذر الرياح منها ديارا، فالخلافة القرشية فى تسعة قرون قامت على الاستعلاء والتعالى والتكبر والتجبر القبلى على الأجناس كلها، وتبدأ بترتيب هرمى من أعلى إلى أسفل، القرشيون يتربعون على القمة، يليهم باقى المهاجرين، فالأنصار، فالعرب ثم العجم، ثم المسلمين من أصحاب البلاد الموطوءة، وكل هؤلاء قابعون على قاعدة من الموالى ومن أهل الذمة، حتى إنهم وإمعانا فى العنصرية ألزموا أصحاب البلاد الأصليين من غير المسلمين بلبس «الغيار» وهى ملابس مغايرة للباس المسلمين، والاستعلاء ثقافة عربية بدوية الأصل والمنشأ من قبل الإسلام واستمرت معه، إلا أن هذه التقسيمة الهرمية ظهرت على السطح شكلا جديدا بعد وفاة النبى، وبدأت بإقصاء الأنصار عن الحكم فى «سقيفة بنى ساعدة» واستقلال قريش وانفرادهم بالخلافة دون غيرهم، وفى ظنى أن «حديث الخلافة فى قريش» الداعم لهذه الغلبة حديث موضوع عن النبى، واختراع قرشى للانفراد بالسلطة، وكان فى مواجهته «حديث الغدير» لأهل الشيعة وهو موضوع مثله، ولم يكن ما تعاهدوا عليه بعد بيعة أبى بكر (منا الأمير ومنكم الوزير) إلا هروبا بالخلافة، تتلاشى كل العهود بعدها، وأتصور أن التكاسل والتراخى فى نجدة الخليفة عثمان وإغاثته وإنقاذه من قبضة الثوار وهو فى حمى المدينة،
هو موقف محسوب على الأنصار بالدرجة الأولى قبل المهاجرين، وكذلك انضمام كثير منهم لجيش الخليفة على ضد معاوية كان مكرا وإغاظة بما مكروا عليهم وأغاظوهم، وإن كان الإمام على قرشى إلا أنه كان مكروها من القرشيين، على نهج (عدو عدوى صديقى) وكان لهذا التوزيع الهرمى الكثير من مظاهر التفرقة فى العطايا والمرتبات والمنح، وتولية المناصب والولاية والريادة وقيادة الجيوش، وكان هذا الاستعلاء وهذا التقسيم الطبقى، السبب الرئيسى فى انهيار الخلافة ووراءها الأخرى، فقد عزلت هذه العنصرية العربية المسلمة الحاكم عن المحكوم، والمسلمون بعضهم عن بعض، وعزلتهم عن باقى الأجناس الأخرى، ولم يكن هذا السلم الطبقى متصلا على خير، بل مربوط بالمؤامرات والدسائس والمكائد، واستطار لهيب الحقد والعداوة والبغضاء بين أطرافه، تتصاعد السنته الملتهبة من أسفل إلى أعلى، وكان كل خليفة من الخلفاء مشغول بمحاربة الخارجين عليه والمتآمرين هنا وهناك، ولم يكلف أحدهم خاطره يوما بالبحث عن أسباب هذا التمرد وهذا العصيان، وكأن قدرهم مكتوب عليه أن يقاوموا منذ اليوم الأول لظهور مظاهر انهيارها وأشكاله، ويفتشون فى جيوب الناس وضمائرهم، وكان التعذيب والتنكيل بالخصوم والمعارضين أهم ما يميز حقب هؤلاء، تارة تحت دعاوى الخروج على الحاكم وأخرى بالتكفير أو الزندقة، وكلها تحت أغطية شرعية وفتاوى مشايخ الخلفاء، واهتزت ثقة الناس فى الحاكم وفى رجل الدين، وطال الدين بعضا مما طال هؤلاء، وأصبح المثل فى إقامة الدولة الإسلامية صارخا ظالما متسلطا وعنيفا، طبقة رفيعة عالية تنعم بمباهج الحياة ويسرها ونسائها وأكلها وشرابها، وتصدر التقشف والزهد والصبر للبسطاء، وتدغدغ مشاعرهم بجنة عرضها السماوات والأرض ونساء وخمر ولبن وعسل وحور عين، ويتساءلون لماذا نرفض الخلافة أو الإمارة او الإمامة لإدارة شؤون الحكم، والسبب معروف فهى أنظمة تحمل من اليوم الأول لحملها كل أسباب السقوط قبل موعد ولادتها، حتى لو حبست الحمل أربع سنوات على المذهب الشافعى.. ساقط ساقط لا محالة.. الأسبوع المقبل
نقلا عن المصرى اليوم