الأهرام26/11/2019
د. محمد السعيد إدريس
من أغرب المفارقات التى يمكن أن تحدث داخل كيان الاحتلال الإسرائيلى أن يجد الرئيس الإسرائيلى رؤوبين ريفلين نفسه مضطراً إلى تكليف زعيم "القائمة المشتركة العربية" التى تضم النواب العرب الفائزين فى الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التى أجريت يوم 17 سبتمبر الماضى بتشكيل الحكومة الإسرائيلية باعتبار أن هذه القائمة العربية هى الكتلة الثالثة داخل الكنيست الإسرائيلى (البرلمان) بعد كتلتى تحالف حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو وتحالف حزب "أزرق – أبيض" بزعامة بينى جانتس، وباعتبار فشل كل من بنيامين نتنياهو وبينى جانتس فى تشكيل هذه الحكومة.
مثل هذا الاحتمال لا يمكن أن يحدث بالمطلق، لأنه، إن حدث، فإنه سيعنى شهادة معتمدة بسقوط مشروع "الدولة اليهودية" أو حتى "الدلة الصهيونية" فى فلسطين المحتلة منذ عام 1948، لكن رغم ذلك، أى رغم أن مثل هذا الخيار يعد خياراً مستحيلاً، إلا أنه يكشف إلى أى مدى وصلت الأزمة داخل الكيان الصهيونى الذى يعيش "مفارقته التاريخية السوداء".
فهو الوقت الذى يثبت فيه أنه بات كياناً عاجزاً عن أن يحكم نفسه وأن يتوافق من الداخل على مشروعه الذى تأسس من أجله فى ظل ضراوة ما يحدث داخله من صراعات متعددة المستويات، فإنه وفى ذات الوقت استطاع أن يخترق قطاعاً واسعاً من النخب الحاكمة العربية وأن يدفعها إلى الاندفاع بالتعامل معه باعتباره "المنقذ التاريخى" من تهديدات تحسبها إستراتيجية متمثلة فى إيران.
عمق الأزمة، التى يمكن أن نصفها بالتاريخية، التى تفرض نفسها الآن بقوة داخل الكيان الصهيونى تتبدى معالمها ليس فقط من خلال العجز عن تشكيل حكومة تحكم هذا الكيان بعد تجربتين انتخابيتين عامتين أجريتا فى 9 أبريل والثانية فى 17 سبتمبر من هذا العام. لكن عمق هذه الأزمة يتبدى أيضاً من خلال تطورين شديدى الخطورة؛ الأول صدور لائحة اتهام بالرشوة والفساد وخيانة الأمانة بحق بنيامين نتنياهو رئيس حكومة تسيير الأعمال من المستشار القضائى للحكومة (المدعى العام) أفيخاى مندلبليت، والثانى وقوف الكيان عاجزاً بمؤسساته عن محاكمة نتنياهو والحكم عليه بالسجن، كما تقضى القوانين، بسبب كثافة التلاعب السياسى والفساد الذى ينخر فى جسد هذا الكيان، وهو عجز، إن حدث فعلاً، فإنه سيفاقم من جدية تعرض الكيان لتشققات داخلية تنذر بانهياره من الداخل رغم كل ما يحصل عليه من دعم خارجى دولى وإقليمى لم يسبق أن حصلت عليه دولة من الدول على مدار التاريخ .
فهل سيستطيع هذا الكيان مواجهة مأزق الاتهامات الموجهة إلى رئيس حكومته، بأن يقدمه للمحاكمة ويحول دون تمكينه من التلاعب بالقضاء، وبمنعه من الاستمرار فى منصبه كرئيس لحكومة تسيير أعمال ودعم خياره الذى يخطط له بمنع تشكيل أى حكومة إسرائيلية وإجبار الرئيس الإسرائيلى على القبول بإجراء انتخابات عامة ثالثة تجرى فى أقل من عام ؟
التحدى صعب أمام الدولة الإسرائيلية فى ظل إصرار بنيامين نتنياهو على أن يتجاوز الدولة كلها وأن يضرب عرض الحائط باتهامات المدعى العام وأن يمنع محاكمته بمسعاه الراهن لقطع كل الطرق أمام تشكيل أى حكومة جديدة وأن يفرض خيار الانتخابات الثالثة التى، وإن جرى التوافق عليها، ستجرى ما بين نهاية فبراير وأوائل مارس القادمين، مع حرصه على إطالة أمد المحاكمة وتعطيلها لحين يحقق حلمه بالفوز فى الانتخابات الثالثة المأمولة وأن يحصل من الكنيست الجديد الذى يأمل أن يحصل فيه على الأغلبية بحصانة تمنع محاكمته، لكن المعارضة والقضاء معاً يؤكدان حرصهما على إفشال هذا المخطط وإنقاذ إسرائيل من مصير أسود مشؤوم حيث لم يأبه المدعى العام أفيخاى مندلبليت بانتقاد نتنياهو للائحة الاتهامات التى وجهها لشخص نتنياهو يوم الخميس الماضى (21/11/2019) والتى وصفها بأنها "محاولة انقلاب ضده" وأنها "اتهامات زائفة" معتبراً أن التحقيقات معه كانت غير نزيهة وملوثة وأن الهدف منها هو القضاء عليه سياسياً. وإذا كان نتنياهو قد تراجع فى اليوم التالى (الجمعة 22/11/2019) وقال أنه "سيقبل بقرارات المحكمة بحقه" إلا أن المدعى العام يفكر فى إمكانية إصدار إعلان يؤكد فيه أن "رئيس حكومة متهم بتلقى رشي لا يمكنه أن يكون مؤهلاً للعمل السليم فى رئاسة الحكومة".
هذا الموقف يتماشى مع مواقف المعارضة وخاصة موقف بينى جانتس زعيم حزب "أزرق- أبيض" الذى طالب نتنياهو، عقب صدور اتهامات المدعى العام لنتنياهو بالفساد والرشوة وخيانة الأمانة، بأن "يتصرف كقائد سياسى فى دولة متطورة ويستقيل، ولا يتصرف كرئيس دولة متخلفة يتمسك بالحكم بالقوة"، كما أعلن أنه سيلجأ إلى القضاء لمطالبة نتنياهو بأن يستقيل فوراً من كل مناصبه الوزارية.
موقف جانتس لا يأتى من فراغ ولا بدوافع الانتهازية السياسية فقط بل يبدو أنه يرتكز على قاعدة صلبة من القرائن الواردة فى بيان المدعى العام وخاصة ما ورد فى بيانه الذى وجه فيه الاتهام الرسمى لنتنياهو حيث أكد إبيخاى مندلبليت المدعى العام فى هذا البيان أن قراره غير المسبوق بحق نتنياهو اتخذ "بعد دراسة معمقة لملفات التحقيق مع نتنياهو وعشرات الشهود" ومعتبراً أن "الاتهامات خطيرة للغاية ولم يسبق أن عرفتها إسرائيل فى الماضى".
رهانات نتنياهو باتت محدودة للفكاك من مصيره الذى ينتظره داخل حوائط السجون، فهو يراهن على طول إجراءات المحاكمة التى ستتطلب رفع الحصانة عنه، وهو ما يتطلب وجود لجنة نظام للقيام بهذه المهمة، هذه اللجنة غير موجودة الآن بسبب عدم تشكيل الحكومة. كما أن أمامه 30 يوماً لتقديم طلب الحصول على الحصانة من المحاكمة، إذا كان عدم وجود لجنة النظام سيحول دون البت فى قرار منحه الحصانة أو رفع الحصانة عنه، فإنه يراهن على فرض خيار الانتخابات الثالثة، وعندها، إذا فاز بالأغلبية، سيكون فى مقدوره تشكيل هذه اللجنة حسب هواه ويحصل منها على الحصانة التى يريدها، أما خياره الأخير فهو العمل على الأخذ بـ "خيار الصفقة" من خلال مقايضة النيابة بصفقة تقضى بإغلاق ملف المحاكمة مقابل اعتزاله الحياة السياسية.
هذا الرهان مردود عليه بجدية ما ورد من قرائن فى قرار الاتهام وفى ظل مساع أخرى معاكسة تدفع بخيار المحاكمة أولها احتمال حدوث انقلاب داخلى فى حزب الليكود يقضى بعزله عن زعامة الحزب واختيار زعيم بديل خاصة فى ظل وجود المنافس القوى المؤهل لذلك وهو جدعون ساعر، وثانيها أن يتأسس تحالف جديد يكون فى مقدوره تشكيل حكومة لقطع الطريق نهائياً على خيار الانتخابات الثالثة وهنا يبرز الدور الحاسم لشخص أفيجدور ليبرمان زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" الذى حل رابعاً فى الانتخابات الأخيرة، عندها لن يجد نتنياهو ملاذاً للهروب من المحاكمة، التى ربما لن تكون محاكمة لشخص هذا الرجل وحده بقدر ما ستكون محاكمة لمستقبل الكيان الصهيونى الذى أضحى قابلاً للانفجار والتفكك من الداخل أكثر من أى وقت مضى .
نقلا عن الفيسبوك