أمينة خيري
يجب أن نعي أن هناك حركة قوية لتوطين الوظائف في دول الخليج. وعلينا أن نفهم أن توطين الوظائف ليس اضطهادًا لنا أو انتقاصًا من مشاعر الأخوة أو نيلاً من واجبات العروبة؛ هو حق أصيل من حقوق الأوطان، وتطور طبيعي لمجريات الأمور.
في السعودية هناك ثورة فكرية ثقافية مجتمعية تدور رحاها وطالما انتظرها كثيرون من أبناء هذا الشعب الشقيق. هم ينفضون غبار التطرف والتشدد والانغلاق، ويخطون نحو النور والمدنية الحديثة. وضمن الآثار المتوقعة لهذه الخطوات – التي نحلم أن تطال غيرهم من الشعوب التي ضربها الظلام والانغلاق والسطحية الدينية مثلنا- أن تقتحم النساء أسواق العمل بأعداد كبيرة، ويطالبن بالانخراط في مجالات ظلت مغلقة على الرجال سواء من أهل البلد أو الوافدين لعقود عدة. وهذا يعني أن فرص العمل تلك ستتقلص أمام غير السعوديين'> السعوديين، وهذا حق أصيل لهم.
هذا التوطين ليس حكرًا على السعودية، بل يجري في الإمارات، والكويت، وعمان وغيرها. والأسباب معروفة، حتى وإن تظاهرنا بأننا نجهلها أو فوجئنا بها. الأوضاع الاقتصادية في العالم تتغير وتتبدل. وموازين القوى تعيد تشكيل نفسها. ومواطن القوة التي تمكن فرقًا من أن يصبحوا "سادة العالم" اقتصاديًا ومن ثم سياسيًا تتغير مقوماتها وتتبدل تركيباتها.
وهذه الدول تمضي قدمًا منذ زمن في خطط لرفع كفاءات كوادرها الوطنية، وذلك عبر التدريب والتأهيل. وهي تضع نصب عيونها رؤى طويلة المدى لبلدانها تهدف إلى تحقيق اقتصاد مستدام متنام قائم على الكوادر "الوطنية". كما أنهم تنبهوا إلى أن النفط لم يعد المقوم الأول والوحيد لرفعة الأمم، ففتحوا المزيد من الآفاق وتوسعوا في أفكار اقتصادية خارج الصندوق. وما مجالات ريادة الأعمال، وتشجيع ودعم أرباب الأعمال الجديدة من الشابب والشابات إلا أمثلة من الفكر الحديث المستنير.
الاستنارة تحتم علينا أن نطلق صافرات إنذار توقظ الغارقين في سبات عميق، أقرانهم من المنخرطين في سفسطات تدفعنا نحو أعماق أكبر من الهاوية الفكرية والغيبوبة الثقافية التي وقعنا فيها. ماسورة إطلاق المواليد بالملايين من أجل العزوة، أو امتثالاً لما يقال في المساجد من أسفل المنابر نهاراً جهاراً عن حرمانية التنظيم، وبحثاً عن مصدر دخل إضافي للأسرة عبر إنتاج عدد أكبر من الرؤوس، واعتبار الدولة مسؤولة مسؤولية أوتوماتيكية عن هذه الجيوش الجرارة، والتعامل مع أموال دافعي الضرائب من كادحي الطبقة المتوسطة (سابقًا) الفقرانة حاليًا باعتبارها حقاً مكتسباً لدعم سباق الأرانب، كل ما سبق يجب أن يتوقف.
ومع هذه الثقافة العجيبة التي تمكنت منا، علينا كذلك أن نواجه جمود الفكرة من التعليم وتوقفها وتحجرها عند حدود الدفع بالملايين إلى دراسة جامعية باعتبارها صك الانتقال إلى المرحلة التالية. علينا مراجعة المفهوم من التعليم الجامعي، والعمل على مستويين متزامنين من التوعية والتقنين فيما يختص بالشهادة الجامعية. أنظر أحياناً إلى هذه الملايين التي تلتحق بكليات الإعلام، ثم أنظر إلى الساحة الإعلامية وأضرب كفًا بكف. أين سيذهب كل هؤلاء؟!، لا سيما وأن المحتوى الدراسي في أغلبه ما زال يدور في فلك الإعلام التقليدي من أرشيف ورقي وحراس البوابة ومدير القسم وقطاع الطباعة والنشر ومراحل إعداد الصحيفة الورقية وتقييم المواد المنشورة وغيرها من الحفريات التي يمكن المرور عليها مرور الكرام طالما مصحوبة بمحتوى يواكب ويسبق متطلبات الإعلام في العقد الثالث من الألفية الثالثة. وإذا أضفنا إلى ذلك مظاهر الثورة الصناعية الرابعة المتجهة صوبنا بثقة وسرعة، سنعرف أن العديد من الوظائف الحالية ستختفي أمام سطوة الأتمتة وقدرة الآلة على الإنتاج السريع والمنضبط والرخيص، بما في ذلك مجالات بعينها في الإعلام مثل الأخبار والتحليلات الاقتصادية.
غاية القول إن المرتكزين على الهجرة الاقتصادية إلى دول الخليج عليهم أن يتنبهوا لمسألة التوطين. وعليهم كذلك أن يعرفوا أن الوظائف أو المهن التي ستظل متاحة لن تتطلب في الأغلب درجة البكالوريوس أو الماجستير. وعليهم أيضًا أن يعرفوا أنه حتى المهن الفنية من سباك ونجار ومبلط سيراميك وغيرها في تلك الدول تتغير معاييرها. لن يكون الطلب على السباك الفتك الفهلوي، أو المبلط الذي يعتبر الإتقان رفاهية والتشطيب النظيف كمالة. الطلب سيكون – وبدأ بالفعل- على الفنيين الدارسين لحرفهم، المتمكنين من عملهم. وهذا للعلم والإحاطة.
نقلا عن مصراوي