د.عبدالخالق حسين
مقدمة
كتب الأخ الدكتور لبيب سلطان مقالة على شكل رسالة موجهة لي بعنوان: ((رد على مقالة الدكتور عبد الخالق حسين، حول عنف المتظاهرين لتخريب النظام الديمقراطي في العراق))، يؤكد فيها أن جميع الأعمال العنفية التي رافقت التظاهرات هي ليست من قبل المتظاهرين، بل من قبل الأجهزة الأمنية ومليشيات الأحزاب الإسلامية، وينفي بشكل مطلق دور قوى خارجية فيه، ويرى أن (العنف اللاانساني الهمجي الذي مارسه ضباط كبار في الداخلية وعصابات من السلطة بملابس مختلفة...الخ). كذلك، يؤاخذ عليَّ أني خارج العراق، لا أعرف ما يجري هناك، بينما هو فيه يراقب عن قرب.(1)
وأنا إذ أشكر الأخ د. لبيب على أدبه الجم في هذا الحوار، عكس البعض الذين يلجؤون إلى البذاءات في التعامل مع المختلف، وتخوين وتكفير الآخر، واتهامه بالعمالة تارة لإيران، وتارة لأمريكا وإسرائيل، مما يدل على خوائهم الفكري، وإفلاسهم الأخلاقي.
لا أريد في هذا المقال الرد على كل ما قاله الأخ لبيب، بل أطرح مبررات رؤيتي لما يجري في العراق، آملاً من الأخوة المؤيدين لهذا الخراب أن يعيدوا النظر في مواقفهم على ضوء ما أطرحه، وما كشفته الأيام الماضية من دور تآمري للجهات الخارجية. وفيما يتعلق بكوني خارج العراق وأني لا أعرف ما يجري فيه، أقول أننا في عصر الإنترنت، والعولمة، حيث أصبح العالم قرية كونية صغيرة، يمكن لأي إنسان متابعة ما يجري في أي بلد بسهولة، إذ كما قال حكيم: "إن الذي يرى الغابة من فوق جبل، يرى أكثر مِن الذي في داخلها".
هناك نزعة لدى عدد من الكتاب والمعلقين لتضخيم الأحداث، وإعطائها صفة أكبر مما هي. فمثلاً اندلعت مظاهرات في 1 تشرين الأول (أكتوبر) المنصرم ومازالت مستمرة، بدأت بمطالب مشروعة مثل (مكافحة الفساد، وتحسين الخدمات، وإيجاد العمل للعاطلين). وأعلن عنها أنها عفوية وسلمية من قبل شباب ينتمون إلى جيل جديد لم يتلوث بأيديولوجية البعث أو غيره . لذا رحبنا بها في أول الأمر، وتمنينا لها لو تبقى سلمية إلى أن تحقق أهدافها النبيلة. ولكن سرعان ما تبين أن وراء الأكمة ما وراءها، وما تظاهرات الشباب العاطلين الذين تم تحفيزهم للتظاهر، إلا تمارين إحماء، ولأغراض لا علاقة لها بتلك المطالب المشروعة، بل لإشعال فتيل حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. لذا سرعان ما تحولت التظاهرة السلمية إلى أعمال عنف، ومعها تصعيد في تسمية ما يجري، فالتظاهرة صارت انتفاضة، والانتفاضة إلى "ثورة"، والثورة إلى "ثورة أكتوبر" تيمناً بثورة أكتوبر البلشفية الروسية، لمنحها رومانسية ثورية، وجلب المزيد من الشباب لها، وإغراء اليساريين وغيرهم بركوب الموجة،علما بأن الشهر العاشر بالعراق يسمى (تشرين الأول) وليس أوكتوبر، ولكن كما قال ابن خلدون "المغلوب مطبوع على طبيعة الغالب".(راجع مقالنا: "ثورة أكتوبر" وثياب الإمبراطور الجديدة!)(2)
إن وصف التظاهرات بالثورة يؤدي إلى فوضى في المصطلحات، وبالتالي التقليل من أهمية الثورة. فالتظاهرة السلمية هي عمل مشروع يكفله الدستور للمطالبة بحقوق مشروعة. أما الثورة، فهي عمل، عادة مصحوب بالعنف المسلح لإزاحة نظام حكم متخلف عن المرحلة، يرفض الاصلاح، أو تبادل السلطة بالوسائل السلمية، وفسح المجال لقوى تقدمية أخرى لاستلام السلطة، تستجيب لمتطلبات المرحلة المستجدة وإحداث تغييرات تقدمية جذرية.
فهل مواصفات الثورة تنطبق على ما يحدث في العراق منذ الفاتح من تشرين الأول وإلى الآن؟
الجواب: كلا. فكما بينا آنفاً، وفي مقالات سابقة، أن التظاهرات بدأت سلمية وبمطالب مشروعة، ولكن ما ان استجابت لهم السلطة المنتخبة، حتى وتغيرت الأهداف إلى إسقاط السلطة نفسها، وبجميع مؤسساتها التنفيذية والتشريعية، والقضائية، أي تغيير كل ما حصل بعد 2003، وتحولت التظاهرة إلى أعمال عنف راحت ضحيتها مئات القتلى، وآلاف الجرحى، وفرض الإضرابات بالقوة المسلحة، وظهرت نزعة الانتقام من جميع الذين جاؤوا إلى السلطة بعد 2003، وعدم السماح لهم في المشاركة في الحكومات القادمة.
وهذه المطالب هي بالضبط ما تطالب به فلول البعث الساقط. وفي هذا الخصوص قال الأستاذ مالوم أبو رغيف بحق، في ختام مقاله القيم (نريد وطن) في الحوار المتمدن:
((أتمنى ان لا يكون من خلف هذه الانتفاضة الباسلة من الذي يسيل لعابه او من الذي يُمني نفسه بالعظمة. اقول هذا وأنا أرى ان النغمة اصبحت سياسية اكثر منها مطلبية، أي أن حل الحكومة والبرلمان لا يقترن بسن قوانين جديدة تكون بديلا عن قوانين الامتيازات والمخصصات والحمايات والمحسوبية والمنسوبية، بل لم نعد نسمع ايضا بمحاسبة الفاسدين وسوقهم الى المحاكمة.. لقد بدأت نغمة السياسة تعلو على نغمة الحقوق، وهذا مؤشر خطر قادم، اذ لا نود ان ننتهي بالمثل القائل "ريتك يا ابو زيت ما غزيت."))(3)
ما هي الثورة المضادة؟
الثورة المضادة (contra-revolution)، هي حركة رجعية مسلحة عكس الثورة التقدمية الحقيقية تماماً، تحصل في بلدان العالم الثالث، مدعومة في معظم الأحيان من قبل أمريكا، ودول غربية معروفة بتاريخها الإستعماري، كما حصلت في دول أمريكا اللاتينية، وآسيا وأفريقيا، الغرض منها إعادة السلطة الرجعية الساقطة، وإلغاء كل ما تحقق في الثورة الحقيقية. وأفضل مثال هو إنقلاب 8 شباط 1963، الذي كان مدعوماً من قبل المخابرات الأمريكية والبريطانية، و الدول الخليجية، والقوى الرجعية الداخلية المتضررة، ضد القيادة الوطنية لحكومة ثورة 14 تموز المجيدة، وإلغاء كل ما حققته الثورة من منجزات تقدمية. كذلك سبقت ذلك الانقلاب تظاهرات مهدت له، وفرض إضرابات بالقوة، تماما كما يجري الآن.
فما الذي يجري الآن في العراق؟
مظاهرات سلمية لحقوق مشروعة؟
ثورة وطنية؟
أم ثورة مضادة؟
نعم، هناك مطالب مشروعة للإصلاح، مثل فساد، وتلكؤ في الخدمات، وتفشي البطالة. كذلك من الإنصاف القول أن هيمنة الأحزاب الإسلامية، وخاصة الشيعية على السلطة، هي خارج الزمن، ولا تناسب المرحلة. فزج الدين بالسياسة، والسياسة بالدين يضر بكليهما. والمطلوب نظام ديمقراطي علماني يستجيب لمتطلبات المرحلة المستجدة في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، ليلبي احتياجات كل الشعب وكل فئاته العمرية، وبالأخص الشباب، وليس نظاماً يفرض قوانين العصور الغابرة. وفي هذا الخصوص يقول الإمام علي: (لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم مولودون لزمان غير زمانكم). فأسلمة الدولة و المجتمع وفرض قوانين العصور الغابرة تضر بالجميع.
ولكن يصح القول أيضاً، أن هذه الأحزاب الدينية هي نتاج ظروف موضوعية قاهرة لا مجال لشرحها في هذه العجالة، وجاءت إلى السلطة عن طريق الانتخابات. لذلك إذا ما تطلب الأمر إزاحتها عن السلطة، فيجب أن تكون الإزاحة بالانتخابات أيضاً، وليس بالعنف، لأن النظام الديمقراطي يمتلك آليات تصحيح أخطائه ومعالجة أمراضه، ويكفل تبادل السلطة بالوسائل السلمية. ولا ننسى، أن أحد أهم أسباب فوز الأحزاب الإسلامية، هو عزوف غالبية الناخبين، وخاصة الشباب،عن المشاركة في الانتخابات، و ضعف وتشتت الأحزاب العلمانية الديمقراطية.
لذلك، نحن لسنا مع إسقاط النظام بالقوة، وسفك الدماء، بل العمل على الإصلاح أولاً، وإذا كان لا بد من تغيير النظام، فيجب أن يكون بالوسائل السلمية، أي عن طريق صناديق الاقتراع (Ballot instead of bullet)، ودون إراقة دماء.
بالمناسبة، صحيح أن جيل الشباب لم يتلوث بأيديولوجية البعث، ولكن في نفس الوقت لم يعرف أي شيء عن مظالم هذا الحزب، وأساليبه الشيطانية الخبيثة في تخريب الأوطان، وهذا ناتج عن قصور الاعلام الرسمي العراقي في توعية الشعب بجرائم النظام الساقط. فمن واجب الإعلام أن يعمل كما عمل إعلام الحكومات الغربية بتنبيه شعوبها عن جرائم النازية والفاشية وكوارث الحرب العالمية الثانية، لكي لا تتكرر.
نستنتج من كل ما تقدم، أن ما يجري الآن من أعمال تخريب، وفرض الإضرابات بالقوة، وشل عمل الحكومة، وإيقاف الانتاج، هو ليس من عمل الشباب الذين خرجوا بتظاهرات سلمية مطلبية مشروعة في أول الأمر، وإنما من صنع أعدائهم في الداخل والخارج. وإذا كان لا بد من تسميتها بثورة، فهي ثورة مضادة، وراءها حكومات قوية وغنية بالمال والإعلام، وأجهزة إستخباراتية أخطبوطية واسعة جداً مثل أمريكا وحليفتها السعودية والإمارات وإسرائيل، تستخدم عراقيين، وبالأخص فلول البعث الساقط لما عُرفوا به من توحش في القتل والتخريب، كأدوات لتحقيق مآربها الإجرامية، وإغراق العراق بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، لتبرر إنقلاب عسكري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإقامة حكومة موالية لأمريكا ومعادية لإيران. وهذا يؤكد ما قلناه مراراً، أن ما يجري في العراق هو حرب بالنيابة بين أمريكا وحليفاتها في المنطقة من جهة، وإيران والقوى السياسية العراقية ومليشياتها الموالية لها من جهة أخرى، من أجل النفوذ، والغرض النهائي هو تمرير ما يسمى بـ(صفقة القرن)، أي سياسة التطبيع مع إسرائيل على حساب حق الشعب الفلسطيني.
فكيف تصدقون بحركة تدعمها أمريكا والسعودية والإمارات وحتى إسرائيل، التي طوال تاريخها كانت دائماً وأبداً وراء الثورات المضادة للحركات الوطنية التحررية في العالم؟ ودليل آخر على تأييد ودعم هذه الحكومات لهذا الحراك هو تصريحات مسؤولين كبار في هذه الحكومات، ومطالبتهم لحكومة عبدالمهدي بالتنحي، والتركيز على إيران، وإدانة الجهات الأمنية العراقية لحفظ الأمن من المخربين الذين يهددون السلم الاجتماعي.
والأخوة المؤيدون لهذه الأعمال التخريبية ينكرون بهوس شديد دور الحكومات الخارجية، والبعث الساقط في هذا الحراك، رغم أن هناك أدلة كثيرة، ويتهمون من يخالفهم، بالإيمان بـ(نظرية المؤامرة)، وكأن المؤامرات لا وجود لها في التاريخ. نسي هؤلاء الأخوة سامحهم الله، أن هناك فرق كبير بين المؤامرة و(نظرية المؤامرة)، فالأخيرة وُضِعت لإخفاء دور المتآمرين. فالسياسة كلها عبارة عن عمليات تآمر مستمر. أنظروا إلى ما يجري حتى في أمريكا نفسها من صراع بين الحزبين الديمقراطي، والجمهوري، لتسقيط أحدهما الآخر في الانتخابات السابقة واللاحقة.
وختاماً، أؤكد للمرة المائة، أني لست ضد علاقة حميمة مع أمريكا، وإيران، فالذين نظموا ودعموا ما جرى في عام 2011 وما بعده من اعتصمات في المناطق الغربية بذريعة التهميش، والتي انتهت باحتلال داعش، هم نفس الجهات التي تنظم وتدعم ما يجري اليوم من أعمال تخريب في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب، باسم المطالب المشروعة، ستنتهي بما يشبه احتلال داعشي للعراق ومن نوع آخر، ولكن بنفس النتائج الكارثية. وهذا في الحالتين، ناتج عن فشل الحكومات التي يهيمن عليها الشيعة في التعامل العقلاني مع أمريكا وإيران. فما يجري الآن هو ليس تظاهرات سلمية من أجل حقوق مشروعة، بل ما يسمى بـ(الحرب الناعمة) بالوكالة بين أمريكا وحلفائها (السعودية والإمارات) من جهة، وبين إيران والقوى العراقية الحليفة لها من جهة أخرى، وبدماء العراقيين وتدمير العراق، وربما ستتحول قريباً إلى حرب ساخنة كما الحال في اليمن.(4)