د.عبدالخالق حسين
حكاية الإمبراطور وثيابه الجديدة للكاتب الدنيماركي هانس كريستيان أندرسون (1805- 1875م) باتت معروفة عالمياً، ودخلت ثقافات جميع الشعوب، وتدل على خبرة الكاتب العميقة، وعبقريته الفذة في فهمه لسايكولوجية البشر، ومدى سهولة خدعهم من قبل النصابين، وقيادتهم إلى الهاوية.
ملخص الحكاية: أن إمبراطورا غبيا كان ينفق الكثير من ماله على شراء الملابس الغالية... طرق باب قصره ذات يوم محتالان ادعيا أنهما من أمهر الخياطين، وأن بمقدورهما حياكة ملابس جميلة ورائعة جداً، وذات خاصية سحرية كونها لا تبدو لأحد في الإمبراطورية بأسرها، ممن ليس مخولا برؤيتها كالحمقى والأغبياء.
أُعجب الإمبراطور بالفكرة، وخولهما بالبدء في حياكة الثياب ... نفذ المحتالان خدعتهما، وأبدى الجميع إعجابهم الشديد بتلك الملابس السحرية المدهشة، وإن لم يروها خوفاً من اتهامهم بالغباء.
وفي الموعد المحدد، و وسط صيحات الإعجاب المفتعل من المحتالين وبقية الحاضرين، ارتدى الإمبراطور ملابسه الجديدة وخرج إلى الجموع المحتشدة أمام القصر احتفالاً بالمناسبة، خرج عاريا تماما كما ولدته أمه وسط إعجاب مفتعل من الجميع وهم يصيحون: "يا لها من ملابس رائعة يا جلالة الإمبراطور!!!" واستمر هذا النفاق يلعب بعقول الناس .. والوهم يلعب بعقل الإمبراطور، إلى أن صاح أحد الصبية قائلا: "ولكنه بلا ملابس".
ولم يمض وقت طويل حتى صاح أحد الكبار: نعم إنه بلا ملابس .. ثم تبعهما آخر .. وآخر .. إلى أن خرجت الرعية بأسرها عن صمتها فصاحت وبصوت واحد: (ولكنه بلا ملابس !!!). وعند ذاك فقط أدرك الإمبراطور أنهم على صواب.. ولكنه بغبائه المعروف وعناده المعتاد .. كان قد تابع موكبه الكبير دونما اكتراث ... وذلك في محاولة منه للمحافظة على هيبته رغم تغير الظروف.
في الحقيقة، هذه الحكاية الحكيمة ذات المغزى العظيم، تتكرر في كل مكان وزمان، ولكن بصيغ وظروف وأشكال ومضامين مختلفة، وأحسن مثال هو المحنة المعقدة التي يمر بها عراقنا اليوم. فما يجري في العراق منذ الأول من تشرين الثاني الماضي من حراك جماهيري بدأ أول الأمر على شكل تظاهرات بدت وكأنها عفوية وسلمية للتخلص من مشاكل متراكمة مثل (الفساد، وتردي الخدمات، وتفشي البطالة)، ولكن سرعان ما تحولت إلى تظاهرات مصحوبة بالعنف، وفرض الإضرابات على المؤسسات الحكومية بالقوة، واستخدام العنف المسلح، و وقوع قتلى بالمئات، وجرحى بالألوف. بعبارة أخرى، خرجت الانتفاضة من أيدي المتظاهرين الشرعيين، وتحولت إلى ما يشبه الحرب الأهلية. فقد تغيرت الأهداف من المطالب المشروعة التي نادوا بها أول الأمر، إلى مطالب جديدة أخرى تتغير مع الأيام منها: التخلص من هيمنة الأحزاب الدينية الفاسدة، واستفحال النفوذ الإيراني، وتغيير الدستور، وإسقاط الحكومة، وإجراء انتخابات برلمانية جديدة، ومنع كل سياسي شارك بالعملية السياسة منذ 2003 من الترشح، أو المشاركة في السلطة القادمة، وإلغاء المجالس المحلية... وغيرها كثير وبدون أن تُعرف لهذا الحراك أية قيادة مرئية. إضافة إلى الإهتمام البالغ للإعلام الغربي وبالأخص الأمريكي، وكذلك العربي الخليجي، مع انحياز واضح ضد حكومة السيد عاد عبدالمهدي، والتركيز على النفوذ الإيراني في العراق، وشيطنة الأحزاب الشيعية فقط، وصمت مطبق من قبل قادة الأحزاب السنية والكردية.
فالانتفاضة الشعبية العارمة، أو "ثورة أكتوبر الكبرى"، كما يسميها البعض، أو ثورة الشعب، كما يسميها آخرون، المفروض بها أن تكون ثورة تشارك بها جماهير من كل أطياف الشعب العراقي دون استثناء، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وليست ثورة مكون واحد فقط، وهو المكون الشيعي. ففي هذه الحالة تكون الثورة عرجاء، و عوراء، ولا بد أن هناك شيء غير طبيعي.
لذلك، وفي هذه الحالة، من المنطق الاعتقاد بأن هذه الانتفاضة تريد تغيير نظام الحكم في العراق بالقوة، وتحت مختلف المبررات، وما المطالب المشروعة المعلنة في أول الأمر إلا وسيلة لإشعال فتيل "الثورة" لأغراض غير معلنة، وراحوا يسبغون عليها بشكل غير معهود صفات ثورة عظمى، ووطنية خالصة، وأنها داخلية مائة بالمائة، ولا علاقة لأية يد خارجية بها، والذي يعتقد خلاف ذلك فهو مصاب بمرض "نظرية المؤامرة". لذلك فكثير من الناس ركبوا الموجة، منهم وفق مقولة (على حس الطبل خفن يرجلية)، ومنهم بحسن نية أنها فرصة للتخلص من حكم الإسلاميين الفاسدين، ومنهم خوفاً من اتهامهم باللاوطنية، و تهمة دعمهم للأحزاب الإسلامية الفاسدة...الخ.
ونحن إذ باركنا في أول الأمر هذا الحراك الجماهيري السلمي، وطالبنا المسؤولين بالاستجابة للمطالب المشروعة، ولكننا لا حظنا فيما بعد أن هذه المطالب المشروعة كانت مجرد طعماً لجر المحرومين من حقوقهم المشروعة إلى التظاهر، تم استغلالهما من قبل جهات خارجية، وداخلية معادية تريد جعل العراق ساحة للحروب بالنيابة بين أمريكا وإيران، وهذه الحقيقة أصبحت واضحة وجلية للعيان الآن أكثر من أي وقت مضى، حيث نجد تركيز الصحافة الغربية وبالأخص الأمريكية، والعربية، على موضوع واحد وهو إسقاط الحكومة والتخلص من النفوذ الإيراني في العراق. (راجع مقالنا: تظاهرات سلمية أم حرب بالنيابة بين إيران وأمريكا؟)(1).
نعم، المشكلة معقدة، تتلخص في معاناة شعب عانى الكثير من الظلم والجور لقرون طويلة وبالأخص خلال 35 سنة من الحكم البعثي الصدامي الجائر، حيث مُنع المواطنون من استخدام عقولهم، لأن الدكتاتور وحده كان المخول أن يفكر نيابة عنهم جميعاً، لذلك فقدوا القدرة على التفكير السليم، والتعبير الحر عن آرائهم، إلى أن جاءت أمريكا فحررتهم من هذا البلاء، وأقامت لهم نظاماً ديمقراطياً، يفسح لأبناء الشعب المجال لاختيار حكامهم بانتخابات حرة ونزيهة.
ولكن بسبب سياسة (فرق تسد) التي اتبعها النظام الساقط الذي فرق الشعب إلى مكونات طائفية وعرقية وأثنية متصارعة فيما بينها، فجاءت الديمقراطية بدون المرور بمرحلة تمهيدية انتقالية لتهيئة المجتمع لها. ففازت أحزاب وفق انتمائها الديني والطائفي والأثني، وأغلب المسؤولين بلا خبرة سابقة في الحكم، فاستغلوا مكانتهم في السلطة، وبدلاً من حل المشاكل الاقتصادية والثقافية والصحية والنفسية، وتراكمات قرون من المظالم، راحوا ينهبون أموال الدولة، ومارسوا المحسوبية والمنسوبية والحزبية في احتلال الوظائف وكسب المنافع. وباختصار شديد، وُلد الثالوث القاتل: (الفساد، وتردي الخدمات، والبطالة). إضافة إلى تكالب دول الجوار والمتضررين من الديمقراطية على النظام الجديد. وأكبر غلطة ارتكبتها السلطة المحسوبة على المكون الشيعي، أنها تنكرت لفضل أمريكا التي حررت العراق، وتحالفت مع ألد عدو لها، ألا وهي إيران.
العلاقة مع أمريكا
لقد حذرنا السلطة مراراً وتكراراً، أن لا تخرب علاقتها مع أمريكا، لأنها دولة عظمى، ولها إمكانيات هائلة في جميع المجالات يمكن الاستفادة منها، ولأن بإمكانها تفجير أي لغم في العراق، فالشعب العراقي مملوء بألغام الفتن الطائفية والعرقية النائمة، يمكن إيقاظها وتفجيرها في أي وقت ولكل من يريد. فاتهمنا أعداء أمريكا بالعمالة لها، وبأجور دسمة!!. بينما الحقيقة كان قصدنا وما يزال، حماية العراق الجديد فيما لو تنكر العراقيون لمن أسدى لهم الفضل. فأهل العراق، معروفون في الضرب على اليد التي تمتد لمساعدتهم، حيث عانى الإنكليز الأمرين حين تورطوا في تحرير العراق من الاستعمار التركي العثماني في الحرب العالمية الأولى، وبالأخص المكون الشيعي الذي كان مضطهداً من السلطة العثمانية، فشنوا حرب الجهاد على الجيش البريطاني، ومن ثم ثورة العشرين، وبالتالي رفضهم المشاركة في الدولة العراقية الوليدة، مما حدى بونستون تشرتشل أن يقول قولته المشهورة: (العراق، يا له من بركان ناكر للجميل). فرفض الشيعة التعاون مع الانكليز، والمساركة بالدولة الوليدة، أدى بهم إلى حرمانهم من حقوق المواطنة لثمانين سنة.
واليوم يعيدون نفس الغلطة الكبرى التي ارتكبها آباؤهم وأجدادهم، فتنكروا لأمريكا التي حررتهم من جور النظام البعثي الصدامي الفاشي الذي رفع شعار: (لا شيعة بعد اليوم)، ووصفهم بالشراكوة، وأن محمد القاسم جلبهم من الهند مع الجواميس..الخ، ومقالات صحيفة الثورة البعثية سيئة الصيت: (لماذا حصل ما حصل) التسقيطية لجميع الشيعة. لذلك أقول لا يمكن للعراق أن يستقر ما لم تكن علاقته قوية بأمريكا. وهذا لا يعني قبول المذلة، كما يعتقد بعض الأصدقاء مستشهدين بقول الإمام الحسين (هيهات منا المذلة). فالحسين أطلق قولته تلك في مكانها المناسب. أما استخدامها في العلاقة مع أمريكا فغير مناسب، بل المصالح تقتضي العمل بفن الممكن. فأمريكا لا تريد سرقة ثروات العراق، ولا استعباد شعبه كما يدعي البعض، بل تريد العراق أن يكون خارج النفوذ الإيراني فقط، وهذا ليس في مصلحة أمريكا فحسب، بل وفي مصلحة العراق أيضاً.
العلاقة مع إيران
كذلك ليس من مصلحة العراق تخريب علاقته مع الجارة إيران، لأن تربطنا معها علاقات دينية وتاريخية وجغرافية عميقة. لذا لا نريد معاداتها كما يريد البعض بدوافع عنصرية وطائفية. ولكن يجب أن لا نضحي بمصلحة الشعب العراقي في سبيل إيران. فالحكومة الإيرانية هي التي اختارت معاداة أمريكا، وراحت تبدد أموال شعبها على طموحاتها التوسعية، والتدخل في شؤون دول المنطقة، ومنها العراق بذريعة العداء لإسرائيل.(راجع تقرير نيويورك تايمس حول النفوذ الإيراني في العراق)(2). فنحن مع الشعب الفلسطيني في صراعه مع إسرائيل، ولكن من غير الصحيح أن نزايد عليه ونكون ملكيين أكثر من الملك. وعليه فعلى الحكومة العراقية أن لا تورط العراق بمغامرات الحكومة الإيرانية في سياساتها الخارجية. فالتدخل الإيراني الواضح في الشأن العراقي أدى إلى تذمر شرائح واسعة من أبناء الشعب، مما أمكن أمريكا من توظيف هذا التذمر لتفجير غضب الشعب. إذ نشاهد التركيز على هذه المسألة، واهتمام الإعلام الأمريكي بها مما يعطي دلالة واضحة على الدور الأمريكي في هذه الانفجار الشعبي.
ومن جهة أخرى لا يمكن لشيعة العراق أن يقطعوا علاقتهم بإيران، لأن في هذه القطيعة يفقدون عمقهم الإستراتيجي خاصة بعد أن تعرضوا لعمليات الإبادة من قبل إرهابيين (القاعدة وداعش)، الذين أرسلتهم الدول العربية. فهناك سوء الظن، وعدم الاطمئنان بين مكونات الشعب العراقي، كجزء من تركة النظام الساقط. فالسنة العرب في العراق يعتمدون في حمايتهم على 22 دولة عربية سنية، والكرد يعتمدون على أمريكا وفرنسا والوحدة الأوربية، والتركمان على تركيا. لذلك يخاف الشيعة من قطع علاقتهم مع إيران فيخسرون عمقهم الإستراتيجي ويتعرضون للإبادة. إذ كما قال الإعلامي عبدالباري عطوان في لقاء تلفزيوني، إن سبب توسع النفوذ الإيراني في دول المنطقة، هو موقف الدول العربية وبالأخص السعودية المعادي لتلك الدول التي فيها مكونات شيعية مثل العراق، وسوريا، ولبنان واليمن، مما فسح المجال لإيران أن تملأ الفراغ. يرجى مشاهدة الفيديو في الهامش.(3)
دور البعثيين في الاضطرابات الراهنة
يتهمني البعض بأني مصاب بهوس الخوف من البعث، وأن البعث قد قُبر ولا وجود له، وهيهات أن يعود إلى السلطة فإنه مكروه ومحتقر حتى من قبل السنة العرب. وأنا إذ أتفق معهم بأنه هيهات عودة البعث للسلطة، إلا إني أرى بأنه من السذاجة الاعتقاد بأن البعث قد انتهى خطره وإلى الأبد. فالبعث اليوم هو بندقية للإيجار لكل من يريد زعزعة الوضع في العراق، إذ بإمكانهم استغلال أي ضعف في السلطة، وأي احتقان وغضب جماهيري لصالحهم، فعندهم الخبرة، والقدرة المالية والتكتيكية والعسكرية. فبالأمس ظهروا على شكل اعتصامات في ساحات المدن السنية بغطاء "داعش" وبذريعة تهميش أهل السنة، انتهى باحتلال داعش لجميع المحافظات الغربية. واليوم يستغلون ثورة الشباب في المناطق الشيعية بذريعة الدفاع عن حقوقهم المهضومة من "الحكومة العميلة لإيران" على حقد قولهم.
وفي هذا الخصوص أرسل لي صديق، رابط فيديو عن دور البعثيين في هذا الحراك الجماهيري الحالي قائلاً: (عندما تنادي الاصوات الشريفةً الوطنية باتخاذ الحيطة والحذر من محاولات البعثيين الصداميين من استغلال نقمة الشعب العراقي على الطغمة الفاسدة، وفساد الاحزاب الاسلامية الدينية، ومسؤوليتها في تدمير العراق فهي محقة جداً.(يرجى مشاهدة الفيديو في الهامش)(4).
رؤية الواقع من خلال اللغة
يقول فلاسفة منهج التفكيكية، أن الإنسان يرى الواقع من خلال اللغة. فبإمكان كاتب متمكن من اللغة أن يجعل القبيح جميلاً، والجميل قبيحاً، والتلاعب بعقول الناس عن طريق التلاعب بالمفردات اللغوية. وهذا الذي يجري اليوم على الساحة العراقية، يشبه تماما حكاية الامبراطور وثيابه الجديدة، التي بدأنا بها هذا المقال. فهناك أعمال تخريبية ضد المصلحة العامة، يصفونها بأنها أعمال وطنية وأخلاقية مبررة. فكيف تم لهم ذلك؟ نحن لسنا ضد التظاهرات والإضرابات السلمية التي كفلها الدستور، ولكننا ضد العنف بجميع أشكاله ومصادره، ومنها فرض الإضرابات على مؤسسات الدولة بالقوة كما يحصل اليوم بتعطيل عمل الموانئ، والمؤسسات النفطية، والمصارف، والمدارس والجامعات وغيرها لشل الحكومة. ولكن الملاحظ أن راح مؤيدو هذه الأعمال التخريبية من العديد من الكتاب، يسبغون صفات وطنية وأخلاقية عليها، وإبرازها كأعمال وطنية وأخلاقية راقية، وأنها من النشاطات الوطنية والديمقراطية والدستورية.
طيب، نحن نعرف مثلاً أنه عندما يضرب العمال عن العمل فذلك دفاعاً عن مصالحهم، مطالبين بتحسين ظروف العمل وزيادة رواتهبم. ولكن ما فائدة إضراب طلبة المدارس والجامعات؟؟ لا شك أن هذا الإضراب يضر بمصلحة المضربين أنفسهم، لأنه ضد التعلم، أي في صالح الجهل. ولكن على طريقة حكاية ثياب الإمبرطور، ينبري كتاب نتوسم فيهم الوطنية، فيضفون صفات الوطنية والأخلاقية على هذه الأعمال المضرة بمصلحتهم. يعني كما يقول المثل العراقي: (شيِّم البدوي وخذ عباته).
فإذا كان فرض الإضراب على المدارس والجامعات بالقوة عمل مبرر لأنه وطني وأخلاقي على حد زعمهم، فيمكن استخدام نفس هذا المنطق لتبرير الاضرابات الإجرامية التي فرضها البعثيون بالقوة عام 1963، على طلبة المدارس والجامعات وأساتذتهم، وقاموا بإشعال الحرائق في باصات المصلحة، ومحطات البنزين، تمهيداً لإنقلابهم يوم 8 شباط 1963 الدموي الأسود، ونعتبرها أنها كانت وطنية أخلاقية، ولكن الحقيقة كانت تلك الأعمال في منتهى الإجرام.
والمصيبة أنه عندما قارنتُ إضرابات اليوم بإضرابات عام 1963، في مقال سابق، علق أحدهم: "كيف تقارن حكم الزعيم عبدالكريم قاسم الوطني بحكم الأحزاب الإسلامية الفاسدة؟" فجوابي هو أن المقارنة ليست بين الحكومتين، فشتان بينهما، بل بين الإضرابين المتشابهين في التكتيك والأهداف، فكلا الإضرابين يشتركان بنفس النتائج الكارثية وفيها بصمات نفس السلالة البعثية.
إن دعم إضرابات الطلبة يذكرني بطريفة ذات مغزى ذكرها عميد الأدب العربي طه حسين، في سيرته الذاتية (الأيام)، مفادها أنه عندما كان طالباً في جامعة القاهرة، قام الطلبة مرة بالإضراب عن الدوام لسبب ما. ولما جاء أستاذ اللغة اللاتينية، وهو إيطالي، ليلقي المحاضرة، وجد الطلبة خارج القاعة، وطلب منهم الدخول ليلقي الدرس، فرفض الطلبة وأخبروه بأنهم مضربون. وهنا قال لهم الأستاذ: ولكن أنتم الذين ستخسرون، فقالوا ليكن!! وهنا ضحك الأستاذ وقال: أنتم تتصرفون مثل ذلك الإيطالي الذي تشاجر مع زوجته وأراد أن يعاقبها، فأخصى نفسه!!! ويعلق طه حسين أنه منذ تلك اللحظة كره الإضرابات ولم يشارك فيها.
ومن الشعارات لتجميل وتبرير عمل ضار على سبيل المثال لا الحصر، الشعار التحريضي: (ماكو وطن ماكو دوام)، أرجو قراءة مقال الدكتور غسان ماهر السامرائي، الموسوم (من أخطر الشعارات: "ماكو وطن")(5). فالقصد من هذا الشعار المضلل تحريض العمال والموظفين والطلبة على الإضراب. كما تصلني رسائل من أخوة في الجنوب أن موظفين في البنوك يعيشون في حالة قلق وخوف لأنهم يستلمون تهديدات بأن سيقع الهجوم على المصارف لنهب الأموال، مما حدى بهم إلى خزنها في أماكن حصينة تحسباً لأعمال الفرهود، وهم مرتعبون من الهجوم عليهم. فبدلاً من إدانة هذا الوضع، نرى البعض يفتخر به مدعياً أن الانتفاضة أرعبت الحكام الفاسدين!! لا أيها السادة، إنها أرعبت الموظفين الصغار الذين لا حول لهم ولا قوة. أما المسؤولون الكبار في السلطة فلهم قواتهم المسلحة التي تحميهم.
ما العمل؟
1- طالما بقيت الحكومة العراقية ومهما كانت أيديولوجيتها، معادية لأمريكا ومتحالفة مع إيران، فالعراق في طريقه إلى الخراب الشامل كما حصل في سوريا واليمن وليبيا. لذلك يجب العودة إلى كسب أمريكا لصالح العراق، لأن معاداة أمريكا انتحار جماعي. وهذا ليس معناه الخنوع والخضوع، بل من متطلبات فن الممكن، ومصلحة الشعب الذي انهكته الحروب وعدم الاستقرار.
2- تشكيل حكومة انتقالية من الشخصيات الوطنية المعروفة بالكفاءة والنزاهة والوطنية، تستجيب للحقوق المشروعة للمتظاهرين، ومحاسبة الفاسدين،
3- التمسك الكلي بالدولة المدنية، العلمانية الديمقراطية، أي دولة المواطنة، وفصل الدين عن السياسة وعدم أدلجة الشعب، والعمل بمبدأ (الدين لله والوطن للجميع).
وأخيراً، أرجو من بعض أصدقائي المثقفين، والأكاديميين الذين يرون في مقالي هذا ما يخالف آراءهم، التحلي بروح الديمقراطية، وقبول الرأي الآخر المختلف (فالاختلاف بالرأي لا يفسد في الودي قضية).