بقلم الراهب القمص كاراس المحرقي
نشهد فى هذا العصر محاولات فاشلة، تحاول أن تُقيم نظرية متكاملة عن السعادة، خالية من النبض الإلهى! وقد نسوا أو تناسوا أن الإنسان خرج من الله وستظل روحه هائمة إلى أن يلتقى بالله، كما قال القديس أُغسطينوس.
ولكن يبدو أن العلم وما فجّره من اكتشافات مذهلة.. جعلهم يبحثون عن ماديات، متجاهلين قدرة خالقها! ولو أنهم تعمقوا قليلاً لوجدوا أن الله داخل فى كل شئ وخارج عن كل شئ، ومن يهاجمه يؤكد حقيقة وجوده، ومن يتشكك بوجوده كمثل سمكة تشكك بوجود الماء من حولها، غير مدركة أن عدم وجود الماء يعنى موتها! وها نحن نتساءل:
إن كان الله غير موجود فلماذا يهاجمونه؟! هل يوجد غير المجنون يصارع كائنات وهمية؟ أيستطيع إنسان أن يُسمّى إبنه الله؟ فإن كان اسم الله يرهب البشر، أفليس هذا دليل لا على وجوده فقط، بل وعلى جبروته أيضاً! ولكن الإنسان لقساوة قلبه وكبرياءه لا يرى الله، فصار كالأعمى الجاهل الذي يرفض وجود الشمس لأنه لا يرى، فى حين أن حرارتها هى أعظم دليل على وجودها، فإن كان لايرى الضوء أفلا يشعر بالحرارة!!
إن كل ما فى العالم وسائل يخاطبك بها الله، لكي يؤكد لك حقيقة وجوده، ولكنك لا تسمعه بسبب ضجيج أفكارك، وهيجان رغباتك، وثورة شهواتك، ولو كان لديك حواس روحية مدرّبة، لكنت تراه فى لمعان النجوم، وتسمعه فى إيقاعات نبضات قلبك، وتشعر بوجوده فى كل نسمة هواء من حولك..
لقد حاول كثيرون على مر العصور، أن يلغوا فكرة الله من الوجود، وبالتالي العبادة الدينية من حياتهم، لكنهم فى النهاية وجدوا أنفسهم مضطرين، إلى الاستعاضة عن تلك الديانات القديمة بأُخرى جديدة من صنع البشر! فأعلنوا بهذا أن الإنسان مخلوق غير كامل، وهو فى حاجة دائمة إلي قوة أُخرى ليسد ما فى عالمه من نقص وضعف وقصور..
نعترف بأن العالم واسع، لكن رغم اتساع العالم وكثرة خيراته، إلا أنه لا يمكن أن يُشبع جوع الإنسان! هل فكرت لماذا ؟ لنرجع إلى قصة الخلق ونتساءل: لماذا خلق الله الإنسان؟ أليس لكي يحيا معه ويتلذذ بحبه، إذن فالإنسان قد خُلق لله ولن يُشبعه إلا خالقه، ولو أنه امتلك العالم فلن يشبع! والسبب: إن العالم محدود، فإذا حصل على شئ فسرعان ما يمله فيبحث عن غيره !! لأنه فى الحقيقة يبحث عن غير المحدود وإن كان لا يدركه! وكأن الإنسان اختار لنفسه أن يعيش أسيراً فى حلقة مفرغة، حُكم عليه فيها بالجوع والعطش إلى الأبد!
وإليك بعض الأمثلة:
نعلم جميعاً أن الإنسان مائت، ولكن هناك من لا يقبل الموت كحقيقة مؤكدة، وإلى الآن يحلم بظهور مادة تجدد شبابه وتُطيل عمره، وتحقق له أعظم أحلامه ألا وهو: " حلم الخلود "، ولأنه عاجز عن تحقيق هذا الوهم، فهو لذلك يسعى إلى التخليد بوسائل أُخرى قد تكون: عائلة يكوّنها، أو مملكة يحكمها.. ومن هذه الوسائل وغيرها.. يُعلن الإنسان أنه يرغب الخلود، لأن ما يريده هو الوجود الدائم وليس المحدود!
ويتساءل البعض عن " الحب ": هل يخضع هو الآخر لهذا المفهوم، أعنى البحث عن غير المحدود ؟ أقول: نعم، فالحب ليس مجرد ارتباط عاطفي، أو إشباع شهوات جسدية.. بل هناك ما هو أعمق من الروابط النفسية..
فالإنسان من خلال حبه، يبحث عن كائن يملك صفات غير محدودة، يأمل من خلاله أن يعالج سلبياته، ويقوّى ضعفاته، ويعوّض نقائصه... ألسنا نسمع كثيرين يقولون بغير تدقيق: إننا نعبد فلانة!! ألا يدل هذا على أن الحب في جوهره بحث عن كائن غير متناهٍ!
ويتجلى العطش إلى غير المحدود فى " العلم "، ولهذا نجد العالم أو الباحث.. ما أن يقدم للبشرية اختراعاً، فسرعان ما يبحث عن غيره، وهكذا الفنان والكاتب والشاعر... يسعى كل منهم باستمرار إلى إبداع ما هو أسمى، فالإنسانية كلها لا ترضى بتراثها سواء العلمي أو الفكري... بل تسعى بمداومة إلى حقيقة أفضل وجمال أروع! ولذلك نرى تاريخ الشعوب حافل بالثورات، ملئ بالانقلابات، وهذه تدل: ليس فقط على مطامع الإنسان، وسد حاجاته الاقتصادية، وإشباع شهواته الجسدية، بل تؤكد أيضاً حنين الإنسان الدائم، إلى ما هو أفضل، واشمئزازه المستمر من واقعه الذى بمداومة يرفضه.
ولهذا لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، لأنه دائم التفكير فى عالم جديد، وباستمرار يتصورأشكال مثالية للحياة، معيداً الكرة بعد كل فشل، هنا تظهر فكرة التقدم، التي هي دليل على أن الإنسان يميل فى كل لحظة لتجاوز نفسه باستمرار واندفاعه للأمام بحركة لا تتوقف والسبب: إن غير المحدود يجتذبه باستمرار وهو لا يرتاح إلا إليه.
وهكذا فإن العنصر الأبدي الذى زرعه الله فينا يجعلنا ولو في بعض الأوقات نشعر باليأس، ويتملكنا القلق، إلى أن ندخل أخيراً بيتنا الحقيقي، ونحيا مع الله الذى أحبنا وبذل ذاته لأجلنا، ألم تسأل نفسك مرة: لماذا عندما يقترب الإنسان من الله، يبتعد تلقائياً عن العالم بكل مادياته وشهواته ولذاته...؟
أعتقد أن الاقتراب من اللا محدود، أعنى الله، يجعل الإنسان لا يبالى بكل ما هو محدود، كما أن الحياة الصادقة مع الخالق، تجعل الإنسان لا يمكن أن يتعبد للمخلوق الضعيف، ألم يقل معلمنا داود النبي: " وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئاً فِي الأَرْضِ " ( مز25:73 ) !!
إن ألطف وأسهل طريقة يستطيع بها الفكر أن يخدعك هي إقناعك بأن الحصول على السعادة الأبدية، ممكن من خلال أشياء محدودة! أليس هذا الخداع هو الذى يدفع بكثيرين إلى الانحراف والتشتت..!
ولكننا نعترف بأن الإنسان لو عاش لشهواته لشابه الحيوان، وأعتقد أن الله فى اليوم الأخير سوف يسأله: لقد خلقتك إنساناً فلماذا لم تصبح إنساناً!