بقلم: يوسف سيدهم
تحل اليوم ذكري مرور 150 عاما علي افتتاح قناة السويس (1869-2019) هذا الشريان الحيوي العظيم الذي ربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط وفتح طريقا جديدا أمام التجارة العالمية يربط الشرق بالغرب -وعلي الأخص يربط جنوب وشرق آسيا بجنوب أوروبا المطل علي البحر المتوسط- ليحل محل المسار البحري السائد للتجارة العالمية من المحيط الهندي التفافا حول أفريقيا عند رأس الرجاء الصالح وإلي المحيط الأطلنطي قبل عبور مضيق جبل طارق ودخول البحر المتوسط… ومنذ افتتاحها أحدثت قناة السويس ثورة في التجارة العالمية كما أحدثت قفزة استراتيجية بالنسبة لأهمية موقع مصر الجغرافي والسياسي جعلتها محط أنظار وأطماع القوي العالمية التي سعت لاحتلالها بدعوي تأمين القناة والملاحة, الأمر الذي جر علي مصر مشاكل كثيرة وحروبا متعاقبة حتي يتساءل البعض: هل كانت القناة نقمة علي مصر أم نعمة؟… لكن سرعان ما تأتي الإجابة: لا.. بل كانت القناة ولا تزال نعمة علي مصر وهديتها للتجارة العالمية خاصة إذا أخذنا في الاعتبار حماية ورعاية مصر المستمرة لمجري القناة وحرصها علي تنفيذ المشروعات العديدة المتعاقبة لتوسيع وتعميق المجري لمواكبة التطورات المتسارعة في أحجام وحمولات السفن وناقلات الحاويات, والتي كان آخرها المشروع التاريخي العظيم لإتمام ازدواج كامل المجري والذي افتتح منذ أربعة أعوام في 6 أغسطس 2015 وأنهي نظام قوافل الاتجاه الواحد في عبور السفن للقناة ليحل محله نظام التدفق المستمر في الاتجاهين لسائر السفن العابرة, ولتستمر قناة السويس مفخرة اقتصادية لمصر وأحد المصادر الرئيسية للدخل القومي, علاوة علي ما يجري تأسيسه الآن علي ضفتها الشرقية من منطقة صناعية تجارية عالمية حرة تعد بأن تنقل مصر إلي آفاق رحبة علي مسار الحداثة والتقدم والازدهار.
ولعلنا ونحن نفتح هذا الملف بمناسبة مرور قرن ونصف القرن علي افتتاح القناة لا نغفل أمرين تاريخيين محفورين في الذاكرة الوطنية المصرية: أولهما أن القناة حفرها أجدادنا المصريون بعرقهم ودمائهم التي روت ترابها طوال سنوات عشر استغرقت تنفيذها (1859-1869) وأن أولئك المصريين سيقوا للعمل مسخرين وليس مخيرين وسقط عشرات الآلاف منهم ضحايا العمل المضني والظروف المعيشية القاسية في زمن لم يكن يعرف معدات الحفر الحديثة ولا قوانين العمل ولا نقابات العمال… لكن كانت النتيجة إنجازا عظيما فذا وسيظلون هم أبطاله لا يقلون في ذلك عن أجدادهم بناة الأهرامات.
صحيح أن التاريخ سيستمر ينسب مشروع القناة للمهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس مثلما ينسب الأهرامات للحكام الفراعنة خوفو وخفرع ومنقرع, لكن لا يمكن للتاريخ إلا أن يذكر وينصف السواعد العفية والجهد الخارق للإنسان المصري البسيط الأصيل الذي حول تلك الأفكار الطموحة إلي واقع خالد معاش.
أما الأمر الثاني التاريخي المحفور في الذاكرة الوطنية المصرية هو ما يتصل بالدور الذي لعبته الحملة الفرنسية علي مصر (1798-1801) في الانشغال بفكرة القناة والعمل علي تنفيذها لأن مثل هذه الأفكار الرائدة ستظل دوما في عداد البصمات التي غيرت الجغرافيا والتاريخ ودفعت الحضارة الإنسانية إلي الأمام… وفي هذا الإطار يسجل التاريخ الآتي: يحسب للحملة الفرنسية فكرة شق قناة تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط, ولكن المشروع توقف بسبب خطأ في حسابات مستوي البحرين, إذ كان هناك اعتقاد ـ ثبت فيما بعد أنه خاطئ – بأن مستوي سطح الماء في البحر الأحمر أعلي منه في البحر المتوسط, وظل ذلك الاعتقاد قائما يمثل عقبة أمام تنفيذ المشروع حتي ثبت بعد بضعة أعوام عدم صحته وأثبتت الحسابات المتطورة الدقيقة أن البحرين في مستوي واحد وأنه يمكن شق القناة, وتم عرض الفكرة علي محمد علي والي مصر ولكنه لم يتحمس لها, فتجمد المشروع مرة ثانية, حتي تولي سعيد باشا حكم مصر وتحمس للمشروع الذي عرضه عليه ديليسبس وبدأ حفر القناة عام 1859 واستمر العمل فيها عشرة أعوام ليتم افتتاحها في 17 نوفمبر عام 1869 في عهد الخديوي إسماعيل وسط احتفالات عالمية شهدتها مصر وحضرتها كوكبة من الضيوف الأجانب علي رأسها الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا آنذاك.
هذه نبذة عن التاريخ العظيم لقناة السويس نذكرها بعد 150 سنة علي افتتاحها.. نبذة استدعيتها من قراءة في ملف الحملة الفرنسية علي مصر… ملف يطرح إشكالية مهمة: هل تلك الحملة كانت حملة استعمارية.. أم حملة تنويرية؟.. وذلك سيكون موضوع مقال قادم بإذن الله.