-1-
أحمل فوق ظهرى أكثر من نصف قرن فى الإعلام بين إذاعة وصحافة وتليفزيون، تلك تجربة ثرية لا أظن أن أحداً من زملائى قد حققها، فقد أتقنت لعبة الإعداد للبرامج، وكان كامل الشناوى يقول: «مفيد فوزى بيعمل إعداد والآخرون بيعملوا قعدات»! كان كامل بك - كما نطلق عليه - يرى أننى ملتزم بمعايير مهنية، والآخرون يحشدون بشراً للموضوع بلا مهنية!
وقد عشت ذلك الزمن الذى صافحت فيه خبراء الإعلام الحقيقيين وليس الهواة! عرفت خبرات مهنية، مارست العمل الإعلامى وليس هواة تجارب! عشت الزمن الذى تعرفت فيه على آمال فهمى سيدة الميكروفون، وتعرفت على المحاور طاهر أبوزيد، والمذيع المثقف عباس أحمد وقارئ النشرة جلال معوض، وحلاوة الصوت فى سامية صادق، عشت مجلة الهوا بين سعد لبيب وفهمى عمر، عشت نصائح سعد لبيب فى تجربة التليفزيون وملاحظات بابا شارو «محمد محمود شعبان» وعشت منظومة صفوت الشريف ومساحة الحرية فى «حديث المدينة»، تلك الحرية المسؤولة وتحترم المسافة مع الأمن. وعشت تجربة أنس الفقى، وزيراً للإعلام، وحافظ على حرية النقد، بل سمح بنقد وانتقاد الحكومة بحضور وزرائها، يقدمه عمرو عبدالسميع، عشت أيضاً تجربة مهندس الإعلام المثقف مهنياً ووعياً أسامة الشيخ.
لقد كان إعلام مصر يعتمد على هذه الكوادر منذ أطلقها عبدالقادر حاتم، الذى عرفته وسمعته وكنت «مصغياً» لكل كلمة قالها خبير أو ممارس للمهنة، وهم يشكلون الجيل النابه الذى اعتمد على المعرفة من الكتاب وليست القشور من جوجل!
وإذا كنت أروى هذا التاريخ فمن باب الفهم لتجربة فى الإعلام سمح وزير إعلام هو جمال العطيفى أن تدخل السياسة شاشتها وكان هذا زلزالاً فى وقتها، إذا كنت أحكى عن تجربتى فلست أنشد برنامجاً ولا منصباً ولا مستشاراً، فهذه مناصب تضمن غلق الأفواه بالضبة والمفتاح، أما أنا فصاحب قلم من منصة وطنية يتكلم ولا أبغى غير الفائدة المرجوة والخير لأّهم قضية فى بلدى.
نعم، إن المناخ الإعلامى فيه ضباب وشبورة، وجدير بهذا المناخ أن تصفو سماؤه، وجدير بالعاملين فى ميدانه الاستقرار وعدم التلويح بالرفد أو بعقوبة الابتعاد عن الشاشة، ولا أحسد الذين التحقوا بقنوات عربية، لأنهم لا يخضعون لسيف المعز دون ذهبه!
-٢-
علمنا المهندس أسامة الشيخ أن الإعلام «محتوى يقال بالصورة فهى المعادل البصرى للمعلومة» وعلمنا أنه «فن يعتمد على من له الطلة والتأثير»، وعلمنا أنه «بسؤال مدبب مباشر تجلو حقيقة وتزيل غموضاً» وعلمنا «أن ذكاء السؤال والمباشرة تقطع الشك باليقين»، وعلمنا أن «المعلومة تخرج من الضيف بوحا بالصمت المحرض»، وعلمنا «أن معارضة النظام جزء من الدولة العميقة»، وعلمنا «أن التطبيل مثل امرأة حامل فوق سنام جمل»، وعلمنا أن «الإعلام سلعة غالية ولا يخضع لتسعيرة». هكذا تعلمنا ومارسنا المهنة، وبالنسبة لى حاورت رئيس مصر ٣ مرات، وحاورت رؤساء الحكومات المتعاقبة، وحاورت الكبيرين طنطاوى وأبوغزالة، وحاورت وزراء داخلية مصر من حسن أبوباشا إلى حبيب العادلى «٩ سنوات». كنت أضع المحتوى وأستعد بالأسئلة. لم يكن لى رئيس تحرير، وكنت المعد والمذيع المحاور، كان ضميرى هو رقيبى، وفى حوارات الرئيس كنت أطلب أرقاماً تضيف مصداقية، وفى حوارات وزير الداخلية كنت أطلب «المحظورات» فى السؤال، وفى حوارى مع طنطاوى وأبوغزالة، كنت أتونس باللواء سمير فرج، الإعلام - كفن - ليس معادلات أو لوغريتمات، لكنه فن اتصال وتواصل على جناح سؤال أو صورة أو معلومة.
وقد تمتعت كمحاور بحرية مسؤولة فى الحوار، خصوصاً هؤلاء الذين يديرون «موتور» الدولة، ولم يكن الهدف الإيقاع بالشخصية إنما الوصول لشاطئ الأمان، حوار متحضر وإضافة معلومات وكان شعارى أن أنقل رأى الشارع إلى المسؤول، فللشارع أهمية كبرى ولو كان صامتاً، فإن صمته لا يعنى رضاه! لقد كنت حريصاً على رأى بواب العمارة وطالب الجامعة وموظف الحكومة وربة البيت. لقد كنت حريصاً على الآراء السلبية بقدر حرصى على الآراء الإيجابية، فهذا التوازن يصنع مصداقية.
ولم أكن المحاور الناطق باسم الدولة، بل كانت لى مساحة من حرية التعبير، وأظن أنها تعتمد على شخصية المحاور وثقافته وليس على من يسنده، لأن الناس تقتنع بالرأى وقد ترفض الرأى الآخر، ذلك هو المناخ الملائم للعمل الإعلامى ليس من بينه الترهيب ولا الوعيد ولا الرفد فى التو واللحظة «أسامة كمال» نمطاً، ولا الاختفاء من الشاشة بسبب رأى «مصطفى بكرى» نمطاً، ولا الحاجة الموسمية للشاشة «توفيق عكاشة» نمطاً ولا ذهاب مصرية لمحطة عربية «لميس الحديدى» نمطاً.
لقد كنت أسأل عمن يدير هذا الملف الإعلامى بسؤال «من هو مستر x؟»، افتحوا الصفحات فالأمر لا يحتاج لغموض أجهزة سيادية، اكشفوا الأوراق، هذا وطنى وهذا غير وطنى وهذا سلفى وهذا متآمر وهذا عميل وهذا ضعيف الانتماء وهذا إخوانى، لابد فى الدرة، وتعاملوا مع الموثوق فيهم ولكن مع الخبرات المتراكمة وليس مع شباب الهواة لمجرد أنهم شباب، إن دولة كبيرة كمصر يليق بإعلامها أن يكون «مدفعية» خبرات ومهارات.
-٣-
الإعلام هو الوضوح فإذا اكتنفه الغموض بحث عن شاشات «أخرى» ليعرف الحقيقة وربما كانت مشوهة، ومن أهم الحقوق حق المعرفة وإلا كانت «المواطنة» وهماً وخيالاً، لا نملك أن يقف جندى على كل تليفزيون فالناس أحرار فى البحث عن مصادر المعرفة، وكلما أجاب إعلام البلد عن الأسئلة المثارة، شعر المواطن بالراحة، ويا ويل بلد تكثر فيه الأسئلة دون إجابات! ساعتها يشتعل الحدس وتتقاذف الإشاعات، وفى زمن عبدالناصر كان اختفاء رمز من الرموز عليه «ماجور» وفى أيام النكسة تساءل الضمير المصرى عن أساب الاختفاء. وفى إعلام يكشف كل شىء حتى المسكوت عنه، لا تنجح الوصفات البوليسية! وللإعلام وسائل معرفية عصرية وبغض النظر عن خلافنا مع توجهات محطة BBC عربى فلا أحد ينكر عراقة تاريخها فى المهنية، ولعل برامجها مرئية للمهنية. هناك التحقيق التليفزيونى الاستقصائى بالصورة والمعلومة. وهناك الحوار لحظة الحدث وهناك التغريدة المصورة، وهناك استديو الشارع وهناك الاستفتاءات المرئية، كل هذه الوسائل تجيب عن ألسنة الشارع الذى بات مركز الانتفاضات والثورات. فى BBC يعمل كبار المذيعين مهما كانت أعمارهم، لأن لا شىء يعوض الخبرة والممارسة فى هذه الصناعة «الإعلام». إن المعلومة هى رغيف الخبز المعنوى الذى يبحث عنه المواطن. وأقسم أن المشاهد صار ناضجاً ويفهم «محتوى» ما يقدم له بما يفوت على معدى البرامج «عديمى الخبرة قليلى التجربة»، فبعض الفن والكثير من الرياضة والنادر من السياسة لا يصنع مواطناً مصرياً منسوب وعيه مرتفع! قادرا على ضرب الإشاعات يقف خلف قائده الجسور السيسى. لابد من «محتوى» ينهض بالمصريين «تربية وتعليما وانتماء» والحل فى محتوى جديد جرىء. إن الشباب الجديد فى الإعلام الذى يطل من الشاشات «يفرح القلب» ولا يفرح العقل. كان هيكل يقول: الخبرات نبع لا ينضب.
فى الشأن الخاص:
١- حين أصبح عدد أوراق الصحيفة الورقية قليلاً وتناقص، شعرت بصعوبة فى قراءة الحروف التى صغرت وتحتاج نظارة مكبرة، وقد لجأت إلى القدير د. حازم يسين ليساعدنى على القراءة بيسر عن طريق أول نظارة قراءة وصرت أقرأ ما أكتبه بعد النظارة فأدخل قلبى السعادة. نعم «النظر» نعمة.
٢- حين أصل المطار استعداداً للسفر يتلقفنى رجال «الخدمة المميزة» ليأخذوا حقائبى وجواز سفرى وتذكرة السفر وأقطع المسافات الطويلة فى المطار راكباً براحة وأستريح فى قاعة مريحة مكيفة حتى موعد الطائرة، خلال الانتظار أتناول أفكارى وفنجان قهوتى حتى أصل إلى مقعدى فى الطائرة، ذلك كله نظير أجر معلوم، ولكنها «خدمة مصرية ذات آفاق أوروبية».
نقلا عن المصري اليوم