أمينة خيري
ما وراء تكفيرات يوجهها البعض لمعترضين على اجتهادات تفضل بها الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي- رحمه الله- وما وراء انتقاصات صوبها البعض لرأي عبر عنه الكاتب أحمد مراد تجاه كتابات الراحل الرائع نجيب محفوظ، وما وراء اتهامات لفظية رمى بها البعض من رأوا انتقادات فنية في فيلم "الممر"، وما وراء كل رفض دامغ أو جنون عارم أو هستيريا عارمة تجتاح أثير العنكبوت أو نبض الشارع لأن أحدهم قال على أحدهم إنه لا يعارضه أو يخالفه أو حتى لا يحبه- آفة كبرى ضربتنا منذ سنوات.
الاعتراض ليس آفة، وكذلك الحال للخلاف والاختلاف وعدم الشعور بالحب أو المودة تجاه الآخر، فجميعها ليست آفات. هي سمة من سمات البشر. يتفقون ويختلفون، ولا يحمل كل منهم في قلبه محبة تجاه الآخر بالضرورة. لكن الضرورة تكمن في سبل التعبير عن الاختلاف والاعتراض، وكذلك في تقبل الآخرين له.
في الدول التي سبقتنا على طريق الدولة المدنية، يحمون حرية التعبير عن الرأي طالما لا تخرق القانون أو تضرب بمواد الدستور عرض الحائط أو تنال من سمعة الأشخاص دون وجه حق أو تشهر بهم. في هذه الدول مضوا قدماً، وقطعوا أشواطاً في معضلات تواجهنا ونقاط خلاف تعرقلنا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: هل الدولة دينية أم مدنية؟ وفي حال مالت الغالبية للدولة المدنية هل يعني ذلك أنهم أصبحوا بالضرورة قوماً من الكفار أو باتت الأديان في مواجهة عدائية مع الدولة المدنية، أم أن هذا خلطٌ ساذجٌ للأمور وربما خلط مقصود للتخويف والترويع من الدولة المدنية؟
وهل التعبير عن الرأي حق متروك في المطلق هكذا دون ضابط أو رابط أو منظم، أم أنه حق ينظمه القانون ويحميه الدستور؟
وهل معنى أن أحدهم انتقد شخصية عامة سياسية أو اقتصادية أو دينية أن النقد قد أسقط النظام السياسي أو نال من التوجه الاقتصادي أو حارب الدين والمتدينين؟
وهل يمكن توجيه انتقادات تمس السمعة دون دليل؟
وهل القول إن فلاناً لا يقتنع بآراء علان فيه نيل من علّان أو تشهير به؟ أم أن عدم الاقتناع حق من حقوق البشر؟
وصلت دول عدة في العالم إلى إجابات لهذه الأسئلة وغيرها، وتوافقوا عليها، وارتضوها منظمة لحياتهم، حتى لو كان بينهم من كان يود أن يمنع الانتقاد تمامًا، أو يزيل القيود المنظمة له كلية. ومضوا قدماً في حياتهم، يعملون وينتجون ويرفهون عن أنفسهم ويعيشون حياة نهفو لها، ونتطلع إليها باعتبارها نموذجًا يحتذى، سواء هؤلاء الذين يؤمنون بحق الانتقاد والتعبير عن الرأي، أو أولئك الذين يعتبرون النقد مباحاً متاحاً إذا ما ظل بعيدًا عنهم، أو الفريق الثالث الذي ألّه من ليس إلهاً وقدس من ليس قديسًا.
القداسة التي يسبغها أغلبنا على من نحب أو نحترم أو نبجل آفة. والخلط بين المقدس وغير المقدس آفتان. والإسراع بنعت المنتقد بأنه خارج عن الملة، أو جاهل وتافه، أو خائن أو عميل (وما تستوجبه هذه الاتهامات من تحركات تتراوح بين طلب الاستتابة والتكفير أو التوقف فوراً عن التعبير عن الرأي أو الوصم والتشويه) ثلاث آفات.
وحتى ننتهي من هذا الفصل السخيف الرذيل الطويل في مسيرة تقدمنا وتطورنا ولحاقنا بركب الدول التي سبقتنا، علينا أن نرسي بعض الدعائم، ونحترم بعض القوانين، ونخضع لعلاجات سريعة للتخلص من شعورنا بأننا مهددون ومعرضون للفناء وأن ما نؤمن به أصبح في مهب الريح لمجرد أن أحدهم انتقد من نحب.
هناك اختراع هائل اسمه التفكير النقدي، فلنجربه دون أن يصيبنا الهلع من أنه قد يطيح بثوابتنا.
وللعلم، إن التفكير النقدي إذا أطاح بثوابت في الأدب أو التراث أو الثقافة، فهذا يعني إنها لم تكن ثوابت يوماً.
نقلا عن مصراوى