بقلم : شكري بسطوروس
مر عام على انطلاق الشرارة الاولى لثورة 25 يناير 2011. عام شهد كثيراً من الاحداث العظام المتسارعة التي لم تشهدها مصر طوال فترة حكم مبارك كلها. قامت الثورة تطالب بحقوق انسانية اساسية: "عيش... حرية ... عدالة اجتماعية". خرجت المظاهرات تطالب بإسقاط نظام مبارك الذي تنكر لتلك الحقوق لسنوات طويلة مهملاً اياها في عشوائية كارثية، مُرَّكزاً كل تخطيطه وامكانياته على التوريث!
ولكن بعد عام من الثورة، يسأل الكثيرون: هل حققت الثورة اياً من اهدافها النبيلة؟ هل تم اسقاط النظام؟ ام أجهز النظام على الثورة؟ هل تحققت العدالة الاجتماعية او حتى اصبح المواطن العادي يحصل على رغيف الخبز وانبوبة البوتاجاز في يسر أم ازداد الامر سوءاً؟ هل تحققت الحرية التي طالبت بها الثورة ام قُتل الثوار وأُلقوا في السجون بعد محاكمات عسكرية؟
يرى كثير من المحللين أن ادارة شئون البلاد بعد تولي المجلس العسكري للسلطة اتسمت بالعشوائية في كل المجالات فيما عدا أمراً واحداً، ألا هو محاولته القضاء على الثورة إذ تم التخطيط للامر بعناية من خلال جمع المعلومات وتحليليها وادارتها بواسطة اجهزة الدولة الامنية وعلى اعلى مستويات.
بدأ ذلك منذ أدي اللواء محسن الفنجري التحية العسكرية لأرواح شهداء ميدان التحرير في 11 فبراير 2011 بهدف احتواء الجماهير الغاضبة! ويدلل المحللون على ذلك بأن الثوار الذين استشهدوا في ماسبيرو ومحمد محمود وامام مجلس الوزراء هم نفس الثوار الذين أُديت التحية لرفاقهم ولكن هذه المرة تم تصفيتهم لأنهم صاروا تهديداً لا يمكن احتوائه!
سارت خطة تصفية الثورة على المحاور الاتية على الاقل:
1. إبعاد مبارك واسرته والقضاء على مشروع التوريث الذي افسد الحياة السياسية والاقتصادية في البلد، والذي يعتبر ايضاً خروجاً على ثورة يوليو التي كرست سيطرة الجيش على قمة الهرم السياسى في مصر، اي منصب رئيس الجمهورية.
2. إحداث فرقة بين الثوار الذين بدوا جميعاً متحدي الصف والرأي في الايام الاولى للثورة. تم ذلك من خلال الاستفتاء على التعديلات الدستورية وما تلاها من جرائم طائفية ضد الاقباط بدءاً من هدم كنيسة اطفيح.
3. إبعاد رجال الأعمال عن المجال السياسى، إذ أن دخولهم المعترك السياسي كان مرفوضاً من المجلس العسكري قبل قيام ثورة 25 يناير. وبالتوازى إدخال الإسلاميين إلى الساحة السياسية مراعاة لترتيبات دولية وإقليمية ومحلية اهمها ضرب الليبراليين والمثقفين الذي اشعلوا فتيل الثورة من الاساس بهدف تهدئة الشارع.
4. وضع بعض اللمسات التجميلية على نظام يوليو كقبول تقييد مدة حكم رئيس الجمهورية، وإجراء انتخابات تعددية على اساس ان احد اهداف ثورة يوليو كان "اقامة حياة ديمقراطية سليمة" وهو الهدف الذي لم ولن يتحقق في ظل حكم العسكر.
هذا هو سقف التغيير الذي اراده المجلس العسكري وحققه بالفعل. وواضح انه يختلف كلياً عما يريده الثوار الباحثون عن نظام مدني ديموقراطي عصري، يحترم الحرية والكرامة الإنسانية والمواطنة والشفافية والتعددية والكفاءة وسيادة القانون.
خطة تصفية الثورة هذه أفرزت الكثير من التعقيدات والصراعات السياسية خصوصاً بعد الانتخابات التي صعد فيها الاسلاميون بصورة لم يتوقعها احد ولا هم انفسهم!
فالمشهد السياسي المصري يموج بصراعات معلنة وغير معلنة بين المجلس العسكري والاسلاميين، وللآن لا يعلم احد مدي تأثيرها على مستقبل مصر سياسياً واقتصادياً، داخلياً وخارجياً.
فالدروس المستخلصة من الشهور السابقة توضح ان المجلس العسكري يخسر معاركه لصالح الاسلاميين. فقد فشل في إقرار مبادئ حاكمة للدستور مع منطقيتها وخضع لمنطق الاسلاميين، ايضاً فشل في معركة تحديد معايير تشكيل جمعية تأسيسية للدستور رغم ضرورتها. ثم فشل في الاحتفاظ بحق المجلس العسكري وحده- باعتباره رئيس الدولة- فى تشكيل الحكومة بعد الانتخابات مع أن الإعلان الدستورى الذى يؤيده "حلفاؤه" الإسلاميون ينص على ذلك. فشل كذلك فى الدفاع عن ضرورة وجود دور سياسى للجيش فى المستقبل، كما فشل فى اقرار نص يضمن سرية ميزانيته أو لجوانب منها مع أن أغلبية الناس تقبل ذلك.
أيضاً يتسائل الكثيرون بقلق عن وضع موازين القوى بين الاسلاميين من جهة والمجلس العسكري ومؤسسات النظام خاصة الامنية من الجهة الاخرى بعد الصعود غير المتوقع للاسلاميين ؟
المعروف ان مصر تُحكم من خلال المؤسسات الامنية منذ يوليو 1952 وحتي اليوم، خصوصاً جهازي الامن القومي وامن الدولة (الامن الوطني). قيادات هذين الجهازين وغيرهما لديها رؤى واستراتيجيات عن قوى الدولة وتوازناتها وكيفية إدارتها، وقد طبقوها على ارض الواقع طوال 60 سنة... قيادات هذه الاجهزة تفاجأت بعامل لم يكن فى الحسبان، وهو أنها مهددة بأن تُزاح كلية لتحل محلها أجهزة أخرى ذات طابع أيديولوجى، مختلفة عما هو قائم ويفترض أنه وطنى مهنى فقط. وذلك بعد ان قويت شوكة الإسلام السياسى خصوصاً بعد الانتخابات والتي قد تغريه لتأسيس أجهزة امنية ذات ايدلوجيه اسلامية تشبه نموذجي حماس والسودان وربما جيش أيديولوجى أيضا لتكتمل اركان نظامهم الايدولوجي المرتجى. فهل سيسمح القائمون على هذه الاجهزة بهذا تاركين مناصبهم وقناعاتهم ومقدرات البلد لغيرهم؟ وما خطتهم لمنع هذا؟ ما حجم الصراعات التي يمكن ان تحدث وما نتائجها؟ ام ان هذه الاجهزة مخترقة وتحولها الايدولوجي هو تحصيل حاصل؟ وبالتأكيد لا تنسى قيادات هذه الاجهزة ما فعلته حماس (فرع الاخوان المسلمين بفلسطين) في غزة بعد فوزها بالانتخابات هناك حيث ألقت برجال فتح من فوق اسطح البنايات الحكومية للتخلص منهم وتأسيس نظامها الايدولوجي لدرجة ان الفتحاويون فروا إلى اسرائيل! أسئلة قد يجيب عنها عام 2012... وكان الله في عونك يا مصر!
على الجانب الاخر هناك الصراعات بين المجلس العسكري والثوار الحقيقيين الذين اصيبوا بالاحباط وهم يرون بأم عيونهم فشل ثورتهم، إذ فشل المجلس العسكري في احتواء الثوار ولو بتنفيذ هامش معقول من مطالبهم بسبب تضارب مصالح الطرفين! من هنا حاول المجلس العسكري القضاء على الاحتجاجات والمظاهرات بتخوين الثوار الذين قاموا بالثورة واتهامهم بالتمويل من الخارج مقابل تنفيذ اجندة خارجية! وتم التحقيق مع قياداتهم بتهم مختلفة امام القضاءالعسكري بهدف ارهابهم واسكاتهم بعد ان تم قتل الكثير منهم. بل وصل الأمر بالمجلس العسكري إلى حد اثارة فزع المصريين بدعوى ان هناك مخطط لحرق مصر يوم 25 يناير 2012 وأن المجلس العسكري لن يسمح بذلك. جاء هذا رداً على دعوات الثوار للثورة من جديد يوم 25 يناير. المضحك المبكي ان هذا التصريح صدر فى نفس الوقت الذى كان فيه د. الجنزورى يستحث المستثمرين الأجانب للمجئ إلى مصر، حتى إن صحفيا أجنبيا سأله: من هو العاقل الذى يأتى إلى دولة يقول قادتها إنها ستحترق بعد أيام؟!
تخوين الثوار ومحاكماتهم بل وقتلهم لم ولن يحل المشكلة، بل يزيدها احتقاناً بسبب شعور هؤلاء الثوار بان دماءهم وتضحياتهم ذهبت في الطريق العكسي واتت بما هو أسوأ.
وللالتفاف على مطالب الثوار قرر المجلس العسكري دعوة مجلس الشعب الجديد إلى الانعقاد يوم 23 يناير أى قبل 25 يناير بيومين ليكون النواب خط دفاع ضد احتجاجات الثوار من ناحية، ومن الناحية الاخرى ليوصل رسالة للاسلاميين بأن وجودهم في البرلمان لا يعني أنهم القوة الوحيدة المؤثرة في الشارع، فيخففوا ضغطهم على المجلس العسكري. وبالفعل فنزول ملايين الثوار إلى شوارع ميادين مصر في 25 يناير 2012 وما تلاها من ايام بصورة لم تشهدها مصر طوال عام 2011. هذه المفارقة توضح مدى الشعور بعدم الرضا لدى جموع الشعب وايضاً عمق واتساع الفجوة بين القيادة السياسية والاسلاميين من جهة وجموع الشعب من الجهة الاخرى كما انها تضع علامات استفهام وتعجب كثيرة حول الطريقة التي فاز بها الاسلامييون بالسطلة التشريعية.
علاوة على هذا يجب ان لا ننسى أيضاً أن هناك حالة الغضب الشعبي والاحتجاجات الفئوية في الشارع المصري الذي يشكو من سوء الخدمات وارتفاع الأسعار وزيادة البطالة وانشغال الصفوة بالصراع على كعكة الحكم وعدم جدية محاكمات رموز النظام القديم، مما سيجعل النزول إلى الشارع وسيلة أكثر منطقية للمطالبة بالحقوق. هذا كله يرشح عام 2012 لمزيدا من التدهور والفوضى والانفلات الأمني والانهيار الاقتصادي.
هذه المؤشرات المؤسفة والمؤلمة توضح عمق المأساة التي وصلت إليها الثورة المصرية بل ومصر كلها. سنة كاملة مرت على الثورة ومازالت خطة تصفيها مستمرة، ومازالت شوكة الاسلاميين تقوى ومازالت مطالب الثورة بعيدة عن التحقق، ومازال جماهير الشباب الثائر تصر على استكمال ثورتها، ومازالت صورة مستقبل مصر يكتفنها ضباب كثيف.
مقال منشور بجريدة ارثوذكس نيوز الصادرة بلوس انجيليس، كاليفورنيا بتاريخ 29 يناير 2012