فاطمة ناعوت
سلسلةٌ من الأخطاء تسببت فى المشهد العبثى التالى. مهندسٌ معمارى أنيق على دراجته البخارية. يحمل حقيبة كاميرا احترافية ضخمة، وتورتة كبيرة. يقف فى الطريق فى انتظار أشخاص سوف يمرّون بالسيارة ليأخذوا التورتة وينطلقون جميعًا إلى مكان الحفل. لم يأت الأشخاصُ وأغلقوا هواتفهم. وصديقنا لا يدرى كيف يحمل التورتة على دراجة! فيغضب ويثور ويُخاصم الأصدقاء. هذا هو الشقّ الأول من الحكاية. وقبل إكمالها دعونى أطرح بعض الأسئلة.

هل يصنعُ اللهُ من أخطائنا الصغيرة هدايا كبيرة؟! كيف يختبئُ الجميلُ فى القبيح أو ما نظنّه قبيحًا، لأننا لا نرى الصورة كاملة؟ كيف يتخفّى الطيبُ، فلا نراه إلا حين تكتمل الصورة؟ وهل هناك مصادفاتٌ فى هذا العالم، أم أن كلَّ شىء مرسومٌ ومنضبط على نحو فائق الدقّة والترتيب؟.

دعونى أُكمل الحكاية التى تُجيب عن كل ما سبق من أسئلة، وتُعلّمنا: ألا ننظر إلى الأمور العابرة باستخفاف، لأن لا شىءَ عابرٌ فى هذا الكون المنضبط، وألا نحزن إن لم تتحقق مساعينا؛ لأن اللهَ يرى ما لا نرى بحواسّنا المحدودة. ولكن دعونى أولا أقدّم لكم أبطال الحدوتة الصغيرة.

«مى السكرى»، صبية جميلة، مرشدة سياحية، أدمن صفحاتى، ورئيسة فريق عملى من شباب قرائى المتطوعين. «رامى نصيف»، مهندس زراعى مثقف، من فريق عملى التطوعى. عمّو «يونان بطرس»، بطل المشهد الافتتاحى. مهندس معمارى مثقف، ومُصوّر فوتوغرافيا هاوٍ. وهو الأب الروحى لفريق عملى، يتفضّل مشكورًا بتصوير صالونى الشهرى كهدية كريمة. أُسمّيه: «يونان الوردة البيضاء»، لأنه يفاجئنى فى كل لقاء بوردة بيضاء أو طوق من الورود البيضاء يطوّق به عنقى. ولم ينس مرّة واحدة، على مدار عشر سنوات، ذلك الطقس المُبهج.

فى سبتمبر من كل عام، وهو شهرُ ميلادى، يُفاجئنى الأصدقاءُ والقراء بعمل أعياد ميلاد كثيرة لى. فى كلّ مكان أذهب إليه أتفاجأ بعد دقائق بصوت أغنية الميلاد تصدح، وتورتة مُضاءة بالشموع تتهادى نحوى. وفى سبتمبر الماضى أقيمت لى عدّة أعياد ميلاد فى الإسماعيلية، والغردقة، ونادى الأرمن فى شبرا، وجروب أبناء الزمن الجميل من أبناء عظماء الفنانين المصريين، وغيرها. وكان فريق عملى قد خطّط مفاجأتى بعيد ميلاد، ورتّبوا كلّ شىء. اشترى عمّو يونان التورتة الكبيرة، وحجزوا القاعة، ولم يتبق إلا استدراجى للمكان حتى تكتمل أركان «المؤامرة» المفاجأة. وحدث أن اضطررتُ للسفر فى ذلك اليوم. وكان على ميّ ورامى الاتصال بعمّو يونان لكيلا يشترى التورتة. لكنهما نسيا! فحدث المشهد العبثى الذى فى صدر المقال. وغضب العمُّ يونان وخاصم الجميع. كل هذا تمّ دون علمى بطبيعة الحال. فتلك مؤامرتهم التى أخفقت.

بعد شهر من تلك الواقعة، اجتمعنا، وبدأ الجدلُ والعتاب. كلُّ شخص يُلقى باللوم على الآخرين لتبرئة نفسه والنجاة من ثورة عمّ يونان، الذى نحبّه جميعًا ولا نتحمّل غضبه. ظللتُ أستمع إلى الشجار، وأقول: «حصل خير يا جماعة. خلاص معلش تتعوض إحنا كل أيامنا أعياد....».. وفجأة قال عمّ يونان غاضبًا: (أنا بقيت واقف فى الشارع شايل شنطة الكاميرا وباقة الزهور وتورتة طولها نصف متر، ومش عارف أعمل إيه والأساتذة قافلين موبايلاتهم!.. بصيت حواليا لاقيت دار للأطفال الأيتام. دخلت وجمعت الأطفال وقلت لهم: تانت فاطمة جابت لكم التورتة دى وعليها صورتها عشان تحتفلوا بعيد ميلادها. الأطفال فرحت جدًا وغنينا لك أغنية الميلاد). صُعِقتُ وهتفتُ بفرح: (معقول يا عمّ يونان، أهم جزء فى القصة تقوله متأخر كده؟! كده الحكاية اختلفت تمامًا. الحكاية كده مفيهاش أخطاء. أخطاء ميّ ورامى كانت ترتيبات إلهية عشان يرسم للأطفال لحظة فرح مع الشموع والتورتة والأغانى والزهور!).

وبالفعل، كان الاحتفال مع أولئك الأطفال هو أجمل أعياد ميلادى رغم أننى لم أحضره؛ حتى يفرحَ الأطفال. وكانت أخطاء ميّ ورامى، حين لم يخبرا مهندس يونان بسفرى من أجمل الأخطاء؛ حتى يفرحَ الأطفال. وحتى كذبة عمّ يونان على الأطفال حين زعم أننى أرسلتُ لهم التورتة من أطيب الأكاذيب؛ حتى يفرحَ الأطفال. كلُّ ما سبق هو تطبيقٌ عمليٌّ ناصعٌ للآية الجميلة: «كلُّ الاشياء تعملُ معًا للخير، للذين يحبون الله». فجميع ما سبق من أخطاء وقعت حتى يفرحَ أطفالٌ يتامى قلّما يزورهم الفرحُ. هكذا يرتّب لهم اللهُ بهجاتهم، ولو من أخطاء الناس وسهوهم. ربما تنسى أو تُخطئ فتلوم نفسك، لأنك لا تدرى، ولا تنظر إلى النهر إلا من ناحيتك فقط. الضفّةُ الأخرى تقول كلامًا مختلفًا. لكن اللَه جابر الخواطر يعرفُ كيف يحوّل أخطاءك إلى فرح ونعمة وبركة لمن يستحق. ودائمًا: «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم