سحر الجعارة
فجأة تنفجر مواقع السوشيال ميديا، وينتفض نشطاء «العالم الافتراضى» للمطالبة بإعدام «شخص ما»!.. تبحث فى القصة وتحقق: لماذا قرر البعض عقد «محاكمة شعبية» وكيف تدخلت دول معادية مثل «تركيا» ليصبح الموضوع «تريند».. وهل «التريند» يعكس «وعياً شعبياً»؟
ثم تنشط غدة الفضول الكامنة فى عقل «الصحفى»، وتدخل مثلاً «جروب موضة».. فتفاجأ ببوست بصورة فتاة حسناء يحرّض على زيادة الإقبال على «التريند» مفاده: (أنا أخت محمود البنا وأطالب بإعدام «راجح».. حق أخى «شهيد الشهامة»).. البنات تولول على ضياع النخوة وتتناثر دموعهن فى بوستات عنيفة: «الإعدام لراجح»، وبالطبع تندفع الفضائيات خلف «التريند» لتحقق فى القضية التى ألهبت مشاعر الناس: «المحافظ يطلب مقابلة والد المجنى عليه، وفد من النواب يذهب إلى المنوفية لتعزيته، محامى القاتل يتنحى عن القضية، والنائب العام يأمر بإحالة محمد أشرف راجح و3 آخرين (محبوسين)، إلى محاكمة جنائية عاجلة لاتهامهم بقتل محمود محمد سعيد البنا عمداً مع سبق الإصرار والترصد فى القضية رقم 14568 جنح تلا، المنوفية، لسنة ٢٠١٩).
ثم تأتى الذروة الدرامية للأحداث: «راجح قاصر».. ترتفع سخونة التريند، وتلتهب مشاعر الجماهير الغاضبة التى تحيط بجلسات المحاكمة، ويجرى التشكيك فى «شهادة ميلاد راجح».. وكأننا عدنا إلى «شريعة الغاب» ولن نقتنع إلا بقتل «راجح» بأيادينا.. ولن نقبل بغير هذا بديلاً للقصاص.
ومع احترامى الكامل لمشاعر أهل «البنا»، وتقديرى للكارثة التى حلّت بهم، وتفهُّمى للانتفاضة الشعبية دفاعاً عن الشهامة.. يجب أن أسأل: كم شخصاً من الذين شاركوا فى التريند قام بالتحرش بفتاة فى الشارع؟.. لا بل كم واحداً منهم تصدى لكتائب الإخوان الإلكترونية على السوشيال ميديا ليحمى «وطنه» الذى هو «عرضه»؟.. أنا شخصياً لم أرَ «تريند» واحداً يواجه أكاذيب الإخوان بقنواتهم وعملائهم.
وبنفس منطق الاندفاع المتهور أو الهجوم المسعور على «الدولة»، ستجد تريند «حق شهد»، بعد الكشف عن مقتل غامض لطالبة فى كلية صيدلة عُثر على جثتها فى النيل بالقاهرة، فمن الذى قال بأن «شهد» رحمها الله لها حق وعند من؟.. ولماذا نبدأ باختلاق «جريمة» ونرمى التهم جزافاً على سلطات التحقيق قبل أن تبدأ؟.. المهم أن يتصدر الهاشتاج السوشيال ميديا ويُحدث دوياً هائلاً ليصبح «التريند رقم 1»!
ثم يأتى تقرير الطب الشرعى ليؤكد أنه بتوقيع الكشف الطبى على الجثة بمعرفة مفتش الصحة، أفاد بأن سبب الوفاة إسفكسيا الغرق وعدم وجود شبهة جنائية.. ولكن التقرير غير مقنع لمن اعتاد التشكيك فى كل شىء.. حتى تأتى شهادة والد شهد ليُخمد شائعات اختطاف الفتاة وقتلها.. فقد قرر أنها ابنته «شهد»، وكانت تعانى من مرض نفسى «وسواس قهرى» وتخضع للعلاج لدى أحد الأطباء النفسيين بالإسماعيلية ومصدومة من علاقة عاطفية وسبق أن حرر محضراً بغيابها بقسم شرطة ثالث الإسماعيلية، ولم يتهم أحداً!
السؤال الهام هنا: ما الهدف من إشاعة روح التشكيك لنزع مصداقية كل ما يصدر عن «الجهات الرسمية» رغم إلحاح الإعلام بعرض طرق التشويه والتلفيق الإعلامى التى تحترفها قنوات الجزيرة وأخواتها مثل مكملين والشرق.. إلخ.
«الهدف سياسى» فى المقام الأول أن تتلاعب بمشاعر الناس بمأساة إنسانية، لتدربهم على «عدم الثقة» فى الدولة وكل مؤسساتها الرسمية.. حتى يصبح الشعب جاهزاً لتلقى شائعات وأكاذيب أخرى «بنفس الكتالوج»، لكنها - للأسف - تهدم كل إنجازات الدولة بعدما أدمن الناس الشك فى كل ما يتلقونه من «مصادر رسمية».
لقد بدأت كتائب الإخوان الإلكترونية هذه اللعبة القذرة بالتشكيك فى جدوى «قناة السويس الجديدة»، وأذكر أننى خضت حرباً على «تويتر» مع شخص يحاكم الآن بتهم عديدة، على رأسها التحريض على قلب نظام الحكم!
نعم المواطن الذى اعتاد أن يتلقى معلوماته من جهات معادية يمكن أن يتورط فى أكبر الجرائم دون أن يدرى.. وأن يُقحم أموراً بالغة الحساسية فى سخافات تسمى «سخرية» وأن يتطاول على جهات لها حصانة، بل ووُجدت لتحميه وتفرض القانون لأنه تعرّض لعملية «غسيل مخ» على السوشيال ميديا.
فهل تبدأ حروب «الجيل الرابع» بالمطالبة بحق البنا أو شهد؟.. للأسف نعم، لأن الناس تسير مثل قطيع أعمى خلف فكرة مجنونة تهدم منظومة العدالة من جذورها.. وتمنحهم بطولة مفتعلة فى العالم الافتراضى بتأييد كل ما هو «سلبى» ونشره.
نعم نحن نحارب أنفسنا، ونغتال أجمل ما فينا «دون وعى».. نتصور أننا نكتسب «زعامة ما» ونصبح أبطالاً بينما نحن فى الحقيقة نتحول إلى «عرائس ماريونيت» تحركها «تركيا وقطر وتحالف الإخوان»!
إنها ضريبة الحرية والإعلام الشعبى الذى ينتشر دون رقابة أو قانون ينظمه.. إنها فاتورة غياب الثقافة الحقيقية التى تزرع الوعى الإيجابى فى العقل الجمعى للمجتمع.
نقلا عن الوطن