شرفتنى الأسبوع الماضى «جمعية تحسين الصحة» بالدعوة لإلقاء كلمة فى منتدى للجمعية عن «دور الإعلام فى مواجهة العنف ضد النساء»؛ وجاءتنى الدعوة ممن لا أملك أمامهم اعتذارا ولا تأجيلا، فقد كان لصداقة العمر مع السيدة الفاضلة سوسن عطية فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ومجلة السياسة الدولية ما يجعل القبول بالمهمة فرضًا.
كنت خلال الشهور الماضية على علم أن الجمعية لديها «مشروع دعم النساء المعنفات» فى تجربة عملية فى ثلاثة فروع للجمعية: إدفو وأسوان وقنا، بهدف إثارة الوعى بحقوق النساء ونشر فكرة نبذ العنف بكافة صوره والموجهة إلى النساء والأطفال بشكل خاص. وفى شهر مارس الماضى نشرت مقالًا فى هذا المقام حول الجمعية والمشروع تضمن مجموعة من الإحصاءات التى أذاعها المركز القومى للتعبئة والإحصاء والتى كان فيها ما يبعث على الانزعاج، وجاءت معلومات إضافية من مصادر متعددة ظهر فيها أننا إزاء ظاهرة عالمية.
فالعنف ضد المرأة لا يعرف ثقافة أو ديانة أو بلدا أو طبقة اجتماعية بعينها، بل هو ظاهرة عامة لا تقتصر على دول الشرق الأوسط أو الدول العربية؛ وهناك عدد من الإحصائيات الدولية التى تناولت أرقامًا تخص الموضوع منها أن واحدة من كل ثلاث من نساء العالم تعرضن لعنف جسدى أو جنسى على الأقل لمرة واحدة بحياتهن؛ وهناك ما يقرب من ٢٠٠ مليون فتاة حول العالم تعرضن للعنف قبل بلوغهن سن الخامسة؛ و٣٠٪ من النساء يتعرضن للعنف من قبل الأزواج.
وقبل عامين وأثناء وجودى فى الولايات المتحدة الأمريكية ذاع خبر عن منتج هوليوود الشهير «هارفى وينستين» بأنه كان يستغل سلطاته فى التحرش بالنساء واغتصابهن، وقدمت مجموعة كبيرة من النساء بلاغات تتهمه باستغلالهن، وكانت النتيجة أولًا أن بلاغات مماثلة تعلقت بعدد من النجوم العاملين فى السينما والتليفزيون الأمريكيين ذاعت هى الأخرى؛ وثانيًا نتيجة ذلك أن حركة نسائية بدأت فى الولايات المتحدة ثم انتشرت فى بقية العالم تحت عنوان «وأنا أيضًا أو Me…Too Movement» والتى كشفت فيها نساء عن وقائع للتحرش والاغتصاب والعنف وقعت لهن، وراحت تندد بكل أشكال العنف ضد النساء مطالبة بقوانين وإصلاحات تدفع عن النساء ما يلم بهن من كرب.
وفى مصر فإن الإحصائيات ذكرت أن امرأة واحدة من كل أربع نساء فى مصر يعنفن من قبل أزواجهن، وإحصائية أخرى جاءت من قبل المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية ذكرت أن ١٢٠ ألف سيدة يتعرضن للاغتصاب سنويا. وفى ذات الدراسة ذكر أن طالبات المدارس هن الأكثر عرضة للتحرش على الرغم من ارتدائهن الزى المدرسى، وأن نسبة التحرش بالفتيات لمن هن فى سن ١٨ عاما تبلغ ٢٢٪، أما النساء اللاتى لا يعملن فتصل النسبة بينهن إلى ٢٧٪، وتنخفض النسبة لمن يعملن فى وظائف إدارية إلى ٢٠٪؛ ولكنها ترتفع إلى ٣٠٪ لمن يعملن فى العمل الجماعى.
هذه الأرقام المفزعة تعود بالظاهرة إلى دوافع اجتماعية ترجع إلى تدنى مستوى التعليم وسهولة التأثر بالمعتقدات الخاطئة المتعلقة بشرف العائلة والعفاف، وتبنى وجهات النظر الداعية إلى فرض القوة الذكورية التى تظهر على شكل العنف الجسدى والجنسى على حد سواء. الدوافع الاقتصادية وتفشى البطالة والفقر تضع ضغوطًا نفسية كبيرة على معيلى الأسرة.
ولكن يبدو أن الدوافع النفسية لا تقل أهمية عن كل ما سبق وهى التى تشكلت فى شخصيات مرتكبى العنف ضد المرأة فى الصغر وأثرت على سلوكياتهم فى الكبر ومن أبرزها تعرض الرجل للإيذاء خلال طفولته، أو وجوده فى بيئة تتعرض فيها الأم للاعتداء من الأب. وفى مقال أخير للدكتور أحمد جلال بعنوان «حوارات نسائية كاشفة» أشار إلى فلسفة «لودفيج فيتجنشتاين» التى ترى أن الجرائم ضد البشر ترتكب على نطاق واسع خارج حدود الحرب وأن «جذور الفاشية موجودة منذ زمن طويل فى علاقة المرأة بالرجل».
الحوار فى المنتدى الذى ضم نخبة من الأكثر علمًا بالموضوع تعرف على الجهد الذى قامت به الجمعية من أجل إثارة الوعى بحقوق النساء وتوفير الدعم النفسى والاجتماعى والقانونى للنساء المعنفات فى المجتمعات الثلاثة التى توجه إليها المشروع. ورغم كثرة المعلومات وبعضها دار انطلاقًا للتجربة العملية من متخصصات فى معالجة حالات العنف، ولو أنها جعلت الإحاطة بالظاهرة أكثر غنى- إلا أنها فى نفس الوقت طرحت إشكاليات كبرى مثل الإشارة إلى «الفاشية» واعتبار جذورها كامنة فى «النظام العام» المترسخ فى العادات والتقاليد العنصرية التى لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، ويصعب اقتلاعها إلا بأثمان باهظة.
العالم عرف الثورة على نظم حكم، بما فيها الفاشية، وعلى الاستعمار، وعلى الظلم الاجتماعى الطبقى والجهوى؛ ولكن كيف تكون الثورة على علاقات شائعة بين الرجل والمرأة تقوم على الاستحواذ والتملك؟!. إشكالية أخرى نبتت فى التاريخ المعاصر للحركات الأصولية مثل «داعش» التى مارست الاغتصاب المنظم، وأكثر من ذلك العبودية، ومعاملة النساء كمخلوقات من الدرجة الثانية يجرى تغليفها من قمة الرأس إلى أخمص القدمين التى تخلق استحواذا وامتلاكا مطلقا.
الإشكالية الثالثة هى كيف حدث ذلك وفى حضارات وثقافات متعددة ومتنوعة بينما علاقات الرجل والمرأة تشمل علاقات اجتماعية بين الأم وابنها، والأخت وأخيها بكل ما فيها من حب وحنان وحماية. باختصار ما هى النقطة التى يجرى فيها العبور من الحالة الإنسانية إلى الحالة الوحشية؟ وهل تكفى دوافع اجتماعية واقتصادية ونفسية لهذا التحول المروع؟.
الإشكالية الأخطر، ربما، أن التاريخ الإنسانى يشهد على أن علاقة الرجل والمرأة يحكمها أيضا الحب والعشق والهوى والوجد بكل ما بينها وفيها من مساحات وظلال ودرجات. ولا أظن أن أبياتًا من الشعر نظمت فى البطولة والشجاعة والذكورة فى عمومها قدر ما نظم من رجال فى نساء بل إن الشعر العربى عرف معلقات كاملة كانت فيها السيوف تلمع كثغر سيدة مبتسم.
الثنائيات المعروفة لروميو وجولييت وعنتر وعبلة وكثيّر وعزة والتى تكونت كثيرا من جماعات متناقضة ومتحاربة سرعان ما ذابت عداوتها داخل ملاحم حالمة فى شغف ولهفة. «الأوبرا» فى معظمها دارت حول تركيبات من الحب والألغاز المصاحبة تجعل العلاقة محاولة مستمرة للاكتشاف وليس للغزو. ما أبعد كل ذلك عن «الفاشية» الكامنة، والعوامل والأبعاد السلبية العميقة التى تفترس وتعنف. الأمر فى الأول والآخر يحتاج الكثير من البحث والدراسة فربما يكون الإنقاذ ممكنًا.
نقلا عن المصر اليوم