محمد طه
امبارح.. في قطار الأسكندرية - الأقصر، الكمسري معدي بيشوف التذاكر بتاع الناس ..قابل في طريقه اتنين بياعين جائلين فى القطر.. سألهم عن التذاكر قالولوا ممعاناش.. طب هاتوا الفلوس ٧٠ جنيه ..البياعين قالولوا يا عم احنا بنسترزق و على باب الله، مش مسافرين يعني.. الكمسري عمل إيه ؟ الكمسري قالهم يا تدفعوا تمن التذاكر يا تنزلوا هنا والقطر ماشي .. فالإتنين قالوله هننزل إزاي والقطر ماشي كده.. طب إستنى على ما يقف في أي محطة .. قالهم طالما ممعكوش فلوس والله ما حد فيكوا هيستنى دقيقة في القطر ده.. الاتنين نطوا من القطر وهو ماشي .. واحد نزل تحت عجلات القطر وهو ماشي .. فالقطر فرمه وفصل راسه عن جسمه.. والتانى اترمى بعيد وحصله بتر في رجله..
كل ده حصل في صمت وسكون وتخاذل تام من الركاب .. محدش فكر يقوم يمنعه .. محدش فكر يحوشه.. محدش فكر يقوم يدفعلهم.. كله شارك هذا المختل في جريمة قتل بشعة..
بدأت أتشائم من هاشتاج #حلل_يا_دكتور.. لأنه -من ناحية- بقى مرتبط كل أسبوع تقريباً بوجود حادثة غريبة أو مصيبة مش مفهومة أو كارثة يندى لها الجبين.. ومن ناحية تانية، بقى برضه مرتبط بتحليل ظواهر مجتمعية أكتر منها أحداث فردية.. ودى حاجة صعبة ومصحوبة برؤية موجعة ويلزمها قدر كبير من المسئولية فى الفهم والتناول والكتابة.. علشان تكون مفيدة ومغيرة وبناءة.. مش زيطة وتريند ونقعد نشتم فى بعض..
المهم.. احنا المرة دى قدام ظاهرة مركبة وكاشفة بجد.. مركبة لأنها بتجمع ٣ شرايح مختلفة من الناس.. بائع متجول، موظف حكومى/كمسري، وناس عادية راكبة القطر.. وكاشفة لأنها بتكشف عن التركيبة النفسية الموجودة فى الثلاث شرايح.. اللى هما فى الحقيقة معظم المجتمع..
****************
ال Apathy..عرض شهير فى الطب النفسي.. ترجمته العربية "فقدان الإحساس".. ودى حاجة أكبر من اللامبالاة. وأصعب من عدم الاكتراث.. وأبشع من الخمول والتكاسل.. انت هنا قدام حد مش بيفرح ولا لنفسه ولا غيره.. ولا بيزعل لنفسه ولا لغيره.. مش بيتألم.. مش بيندم.. ممكن يقتل بدم بارد.. مش بيتعاطف مع الآخرين.. مش بيحس بيهم أصلا.. حد منحنى المشاعر عنده مسطح.. مستوى.. مش بيتحرك ولا لفوق ولا تحت.. علشان كده التسمية التانية للعرض ده "Affective flattening".. يعنى الركود الوجدانى.
العرض ده موجود عند مين؟ عند نوعين أساسيين (على الأقل) من المرضى النفسيين.. بعض الناس اللى عندها فصام (شيزوفرينيا).. وكل مضطربى الشخصية السيكوباثية Psychopathy.. اللى اسمها مشتق أصلا من كلمة Apathy..
الناس دول (السيكوباث) عندهم ثلاث صفات أساسية فى شخصيتهم:
- مستوى عالى جداً من التلاعب والمراوغة والكدب والخداع.
- مافيش احساس خاااالص.. حتى لو مثلوا ده..
- مش بيتعاطفوا مع حد، ولا يعرفوا يعنى إيه تعاطف من أصله..
إلى جانب بعض الصفات الأخرى اللى كتبتها فى المقال السابق مباشرة.
طيب مش التلات أوصاف دول هما بالظبط اللى حصلوا فى الموقف ده:
- بائع جائل بيتلاعب ويراوغ ويتهرب من سداد تمن التذكرة، وكلنا ركبنا قطارات وعارفين (وده طبعا لا يبرر بأى حال من الأحوال الجريمة البشعة اللى ارتكبت فى حقه.. فهو انسان قبل كل شئ).
- كمسري ماعندهوش ذرة تعاطف ولا رحمة ولا تفاهم.. فقط قسوة.. وعنجهية.. وتصليب رأى.. مهما كان التمن.. ومهما كانت الخسائر.. رغم وجود بدائل أخرى لحل الموقف.
- مجموعة من الشهود على الحادث.. اللى منهم مسك موبايله يصور.. واللى سكت.. واللى تنح.. فى انفصال تام عن الواقع، وبلا أى احساس أو تفاعل ايجابى على الإطلاق.. اللى هو الوصف الحرفى للApathy.
أنا مش حابب ومش موافق على اختزال المشهد فى موقف الكمسري.. اللى رغم انه مجرم ويستحق أقصى العقاب.. لكن المسؤلية الحقيقة هنا تقع على الكل.. علينا كلنا.. الجميع مذنبون ومشاركون بدرجة ما.. إما بالتلاعب.. أو بالقسوة.. أو بالانفصال عن الواقع الى درجة الفصام.
اللى عاوز يتغير بجد.. يشوف مسئوليته هو شخصياً عن اللى بيشتكى منه.. ازاى وصله.. وليه وصله.. وهايعمل إيه فيه..
اللى عاوز يتغير بجد.. يشوف اننا قدام مجتمع بيتحرك بخطوات متسارعة نحو السيكوباثية، ويا نلحقه يا مانلحقهوش، قبل ما يدهس نفسه فى الطريق..
اللى عاوز يتغير بجد يتوجع الأول.. يتوجع أوى من هذا المشهد المأساوى، اللى أكتر حاجة توجع فيه هى موقف الناس العادية.. إيه ده؟ ازاى وصلنا لكده؟ طب ليه وصلنا لكده؟ هى اللامبالاة وصلت للموت؟ هى السلبية وصلت للدرجة دى من التخلى والبيع وتكبير الدماغ؟ هو الفصام والانفصال عن الواقع بقى مالهوش حدود بالشكل ده؟ جيبنا منين الapathy ده كله؟ ايه الجنان ده؟
مش قادر أتجاهل السؤال اللى عمال يتنطط فى دماغى؟ الناس دول لو كانوا شافوا فى اللحظة دى واحدة لابسة لبس ماعجبهومش، كان ده هايبقى نفس رد فعلهم؟ واللا نصهم هايتحرش بيها.. والنص التانى هاديها هى وأهلها درس فى الأخلاق؟
طب نعمل ايه؟ نعالج ده ازاى يا دكتور؟
كل اللى نقدر نعمله هو اننا نلحق.. نجرى.. نسابق الزمن قبل ما نتحول فعلا إلى مجتمع سيكوباثى.. لأن السيكوباثية فى الطب النفسي زى السرطان.. مرض مالهوش علاج.. وحالة مافيش منها رجا..
الود ودى يكون فيه على ناصية كل شارع وحارة دكتور نفسي شاطر وفاهم ومسئول .. يعمل مجموعة توعية نفسية لأهل المكان.. ويكون فيه كل قناة برنامج خاص بالتوعية النفسية.. يكلم الناس عن نفسهم.. مش عن أى حاجة تاني.. ويكون تبع كل جامع وكنيسة مجموعة ندوات ومحاضرات وورش عمل هدفها الوعى النفسي.. والوعى النفسي فقط..
على فكرة.. فيه فرع كامل فى علم النفس اسمه علم النفس المجتمعىCommunity Psychology..
احنا مجتمع أصيل وطيب بجد.. بس للأسف مافيش أى ضمان اننا نفضل كده.. الا لو قررنا من جوانا (كل واحد فينا) اننا نفضل
كده.. وعملنا كل حاجة علشان نفضل كده.. وإلا.. هاتتحول (احنا) فى أول الجملة السابقة إلى (كنا)..
واللى بيحصل بيقول اننا على أعتاب ذلك..
وربنا يستر..
نقلا عن الفيسبوك