طارق الشناوي
فى المهرجانات الكبرى يتفاخرون عندما يقترب عدد النساء المخرجات من الرجال، خاصة المسابقات الرئيسية، وعندما يتضاءل تواجد المرأة يعتذرون، قائلين إنهم لا يطبقون فى الفن نظام (الكوتة)، وهو ما ينبغى بالفعل أن يسود المنظومة الإبداعية، مع الزمن سوف يسقط شعار (البقاء للأقوى)، ليصبح (البقاء للأجمل) لأن الإبداع الجمالى فيه تكمن القوة.

مهرجان القاهرة مثلا وقع ميثاق (50 50) والذى يقضى بالمساواة بين الرجال والنساء فى العمل والإدارة والأفلام، اكتشف أنه داخل هيئته التنظيمية ما يتجاوز 70% من النساء، ولم يتعمد أحد ذلك، وكأن الرجل هم المستفيد الأول من (50 50)، فهو الذى سيطالب بالمساواة!!.

وبرغم تحفظى على تقييم مسابقات المهرجان بتلك النسبة التى تحمل ظلما للمرأة، حيث يبدو كأن المشاركة رسميا تنحاز للأنثى لمجرد كونها أنثى، بينما فى الإبداع الساحة مفتوحة للجميع. هذه النسبة مثلا أراها متحققة فى أفلام (قرطاج)، كما أن عدد النساء فى الإدارة التنظيمية، بدون العودة لإحصائيات رقمية موثقة تبدو أيضا لها النصيب الأكبر.

فى عالمنا العربى المتهم أصلا بازدراء المرأة، تجد المرأة فى عدد من المواقع وقد تقدمت الصفوف، الشارع التونسى مثلا وعلى باب دور العرض التى تُقدم أفلام المهرجان، تكتشف أن المرأة تُشكل الأغلبية، عندما يحتاج الأمر إلى إعلان الثورة، تجد أن المرأة أيضا تتقدم الصفوف.

على الجانب الآخر تضاءل عدد النساء المصريات فى المهرجان، أفلامنا لمخرجين، لكن هذا طبعا لا يعنى سوى أنها الصدفة ليس إلا.

بينما داخل المسابقة الرسمية لقرطاج تحقق هذا التوازن غير المقصود قطعا.

ومن بين الأفلام المهمة نتوقف أمام (بابيشا) للمخرجة الجزائرية منية مدور فى أول عمل درامى طويل، هناك أحداث لا يمكن أن تغيب عن الذاكرة الجماعية للشعوب، تتعاقب السنوات وتتغير المواقف، وتتبدل السياسات، بينما تظل قادرة على الحضور، كأنها صورة ثابتة، بسبب ما أسفرت عنه من أثر نفسى ومادى عصى على النسيان، (العشرية السوداء) بالجزائر، تلك السنوات العشر التى بدأت مع مطلع التسعينيات فى هذا البلد العزيز علينا، ونظمتها الجماعات الإرهابية المتطرفة، وهى تسعى لتغيير ليس فقط هوية الدولة بقدر ما تغتصب هوية الشعب، القتل والدمار والدماء خبزهم اليومى، وبعدها، وبضمير مستريح، ينطقون الشهادتين، لهم نفس الملامح والعقيدة الدموية ولديهم نفس النظرة التى تشعرك بأنهم يضعون عيونا لاصقة تُطل على الموت والدمار!!.

سبق أن عُرض فيلم (بابيشا) فى قسم (نظرة ما) بمهرجان (كان)، وهو يستعيد تلك الأحداث من خلال عين فتاة فى الـ18 من عمرها تنتظرها الدنيا، بينما قد أصدروا أمرا ينهى رصيدها من الدُنيا، هى واحدة من شهود وشهداء الإرهاب، سلاحها الباتر هو تصدير الجمال، من خلال عملها بالأزياء، قررت التحدى وأقامت معرضا، يبدو للوهلة الأولى أنه ملابس المرأة، لكن كانت تلك هى الوسيلة التى تواجه بها الإرهاب، هم يريدون للمرأة أن تنتقب، ويا حبذا لو ظلت حبيسة البيت، (بابيشا) كلمة باللهجة المحلية الجزائرية تعنى الفتاة الجميلة التى لا ترتدى حجابا.

استعادت المخرجة الجزائرية سنوات الإرهاب الدموى، الذى ظل حاضرا دوما فى المشهد السينمائى، صحيح أن الجزائر فى نهاية الأمر أطاحت بالإرهاب، بعد أن تولى الرئيس السابق، عبدالعزيز بوتفليقة، دفة الحكم، ثم أطاح الشعب ببوتفليقة والمجموعة الحاكمة، عندما أرادوا البقاء للأبد، فجاءت ثورة الجزائر السلمية فى الشارع من أجل الديمقراطية والتى أراها هى السياج الحقيقى ضد التطرف، الذى تنمو بذوره فى عهود الديكتاتورية.

المتطرفون يرصدون كل أماكن الحياة والترفيه مثل النوادى والمقاهى ويعتبرونها من أهدافهم الرئيسية، المخرجة الجزائرية، مونية مدور، اختارت أن تُقدم بُعدا أعمق للصورة، وهو التحدى بالجمال من خلال معرض أزياء نسائى (ديفيليه) تسعى لإقامته بطلة الفيلم، وتدعى نجمة، بينما المتطرفون يعاقبون أى فتاة لا ترتدى فى الشارع، الحجاب، ولديهم قوائم بكل من يمارس الفن و الأدب والإعلام والصحافة يعتبرونه مروجا للرزيلة، عداؤهم للمرأة هو البند رقم واحد فى ميثاقهم الدموى، وجريمتها أنها امرأة.

بطلة الفيلم تحلم بـ(ديفيليه) ترتدى فيه الفتيات الجزائريات أحدث وأجمل الأزياء فى تحدٍ مباشر للإرهاب، كانت تعلم أنها ستواجه الموت حتما لكنها لم تتراجع.

الذروة التى قدمتها المخرجة هى إقامة معرض للأزياء، وفى تلك اللحظة يشهرون بنادقهم ويسنون سيوفهم ويلطخون الجمال بالدماء كأنهم قد حملوا تفويضا بقتل البهجة، الجمال هو العدو الأول لمغتصبى الحياة، الفيلم لا ينتهى مع اندحار التطرف لكن ما حرصت عليه المخرجة، التى كتبت أيضا السيناريو، أن إرادة التحدى تتجسد فى إشهار سلاح الجمال، الفيلم يتحرك دراميا وإخراجيا فى دائرتين حكاية البطلة وحكاية الشارع، فكانت عين المخرجة تنتقل بين الساحتين المتداخلتين، ما يمارسه الإرهابيون فى الشارع ما تخطط له البطلة التى لم تتنازل عن حلمها، حتى ولو كان الثمن حياتها وأطلقت تغريدتها الأخيرة فى وجه الظلام والقبح!!.
نقلا عن المصرى اليوم