خالد منتصر
«هل الدين والقانون فى خدمة المجتمع، أم أن المجتمع والقانون هما اللذان فى خدمة الدين؟!»، سؤال طرحه الروائى أشرف العشماوى فى روايته الجديدة «بيت القبطية»، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، سؤال يلخص نبوءة الرواية عن نار الفتنة الراقدة تحت رماد خداع النفس والمسكوت عنه من ممارسات تصنع وتؤجج الصراع الطائفى، وإزاحة قانون مدنى لصالح احتلال عرف قبلى، وتقاليد بالية، وتلاسن دينى بغيض.

الرواية تلمس وتراً حساساً وتخوض فى منطقة ألغام ملتهبة، ولا يمكن تلخيصها فى هذه المساحة، لكن يمكن الإشارة إلى حالة التوتر التى تخرج من بين السطور لتضىء لنا النور الأحمر وتنذر بالرعب القادم إذا ظلت الأمور على ما هى عليه بدون تجديد فكر دينى حقيقى، بداية من اختيار مسرح أحداث الرواية، قرية «الطايعة» ذات الأغلبية المسيحية، وهذا يجعل وتر التوتر والتصاعد مشدوداً أكثر، ويجعل الروائى حراً فى عرض بورتريه أكثر صدقاً، ليست فيه ألوان الملائكة والشياطين الحادة، لكن فيه الإنسان المثقل بالحمل الطائفى والمغيّب، والأهم أنه من الجانبين. الوتر الروائى مشدود ما بين شخصيتين، نادر وكيل النيابة، وهدى القبطية صاحبة البيت الذى هو عنوان الرواية، هدى صاحبة البركة والمعجزات، التى يلجأ إليها أهل القرية لتعاطى البركة، فى نفس الوقت الذى يطاردونها فيه ويرسمون على بيتها الصليب، الاثنان هاربان، نادر هارب من جحيم خطيبته المرفهة المزعجة، وهدى هاربة من جحيم زوج الأم الذى اغتصبها والزوج الكلاف الذى تعامل معها كبهيمة فقاومته وهربت. لقاءات هدى ونادر كمواجهة مباشرة قليلة، لكن لقاء المصير وسؤال النبوءة يتصاعد إيقاعه طوال الرواية ليخلق خطاً ومصيراً مشتركاً، صراع أراضٍ وتزوير أوراق وبيع مساحات وتعدٍّ على أملاك، هذا هو ظاهر الصراع، لكن تحت السطح شيخ جامع يدعو على المسيحيين ويسبهم، وحارس مسكن وكيل النيابة يتوعد بالانتقام، وممثل سلطة الضبط والربط يقول جملته الإكليشيه المقدسة «أحمد لما يقتل محمد دى جريمة عادية»، يقولها تبريراً تحت لافتة الحس الأمنى، وهى تعكس الكارثة.

الدين نواته الضمير والسكينة والخشوع، تبحث عن تلك المعانى فى ممارسات أهل قرية الطايعة فتجدها قد تبخرت وصارت سراباً، بدوى الغفير رفض المسلمون والمسيحيون الصلاة عليه لأن كلاً منهما يتشكك فى هويته الدينية، هدى التى تزوجت رزق، كهربائى الكنيسة، والتى اكتشفت أن زوجها الكلاف مغتصب الروح والجسد لم يمت، عندما حاولت الانتحار وانتقلت وهى حامل إلى المستشفى، لم يتم إنقاذها وماتت لأنها لم تجد فى أهل القرية واحداً يوافق على التبرع بالدم! ضم الأطفال يحدده الأفضل ديناً وليس الطفل ورغبته، إنها القسوة والفاشية وغياب الضمير واستخدام الدين كأداة قهر ورابطة ألتراس وبلطجة ميليشيات.

عند وقوع الفاجعة المشتركة واجه المسلم والمسيحى نفس العدو، النار، لكن ساعتها كان الحضن قد جف، والونس قد تبدد، واللسان قد شل، قالها نادر بعد أن قال له الضابط إن القرية مستهدفة، قالها وهو يتأمل القرية ورماد الحرائق وأطلال التخريب. «هززت رأسى فى أسى محاولاً إحصاء عدد السنين التى ضيّعها الشيخ رجب وتابعوه من عمرهم رافعين أيديهم فيها نحو السماء للدعاء على غيرهم، متمنين تدميرهم وتفريقهم وحرقهم كل جمعة، يدعون عليهم وعلى آخرين مؤمنين مثلهم، والله لا يستجيب كل مرة، لكنهم مستمرون فى الدعاء بغير تفكير، كيف يستجيب لكم لحرق وتشتيت شمل طائفة لأن أخرى لا تحبها؟، أليس هو ربهم وخالقهم يا أغبياء مثلما هو ربنا؟، هل هو بحاجة لرأيكم فى خلقه كى يبدله أو يدمره؟!»، لم يجد نادر الإجابة وترك الطايعة وهو أكثر حيرة وشفقة على هدى حبيب، تلك السيدة التى ماتت منا لأنها فقط أرادت الحياة.
نقلا عن الوطن