بجولة بسيطة بين محال الجزارة فى القاهرة، يستطيع الزبون أن يرصُد تراجُعا ملحوظا فى أسعار اللحوم البلدية الحمراء التى أخذ سعر الكيلو منها فى الارتفاع على مدار العامين الأخيرين وصولاً إلى 160 جنيهًا للكيلو الواحد فى القطعيات المميزة، ليتراوح التراجع بين عشرة وعشرين جنيها باختلاف النطاق الجغرافى داخل القاهرة لتصل 110 جنيهات، و100 جنيه فى بعض المناطق الشعبية.
وشهدت أسعار اللحوم تراجعا كبيرا فى محافظات الصعيد لتصل إلى 70 جنيها فى بعض المناطق، مُعلنةً عن «حالة طوارئ» بين صغار المُربين الذين يرون فى الحالة التى يعتبرها مُستهلكون «صحية» نذيرا بالخراب، فضلاً عن كونها مُجرد فقاعة، سُرعان ما ستتبدد لترتفع الأسعار بعدها مرة أخرى.
«المصرى اليوم» حاولت تتبع الأسباب خلف التراجُع، فضلاً عن التفاوت فى الأسعار بين العاصمة والمُحافظات.
فى محيط السيدة زينب، استغل القائمون على عدد من الجزارات التراجع فى الأسعار لإعادة التسويق لمنافذهم عن طريق الأسعار الجديدة، والتى تراوحت بين 120 و125 جنيهًا للكندوز والبتلو على التوالى، فى حين أبقى جزارون آخرون فى مناطق أخرى كمدينة نصر ومصر الجديدة على أسعار مرتفعة نسبيا لم تنخفض عن حاجز 140 جنيها للكيلو بأى حال.
يعمل محمد أمين فى كار الجزارة منذ سنوات، ما مكنه من تحليل سلوكيات زبون اللحم الأحمر فى المناطق الشعبية كحى السيدة زينب، إذ يرى أن الفترات اللاحقة لموسم عيد الأضحى تشهد عادةً انخفاضًا سنويًا فى الأسعار، نتيجة لتشبُع ثلاجات المُستهلكين بمخزون الأضاحى وإحجامهم عن الشراء لفترة، ولذا كان الانخفاض هذا العام وفقا لـ«أمين» استثنائيًا، خاصة بعد أن حافظت الأسعار القديمة (140 جنيهًا) كمتوسط على ثبات نسبى فى الفترة ما بين شهر رمضان إلى عيد الأضحى.
فى الأعوام السابقة، كان الانخفاض يتراوح بين 5 و 10 جنيهات، وبرغم الانخفاض الملحوظ، لم تتأثر المبيعات عن المعدل المتعارف عليه فى هذا الوقت من العام «الإقبال كالمعتاد متأثرش بانخفاض السعر، محدش هيشترى لحمة بالذات زيادة عن حاجته عشان يستغل التخفيض» علاوة على أن اللحوم كسلعة، بارتفاعاتها المطردة فى الأعوام الأخيرة، لها زبونها والكميات التى يشتريها شهريا وفقًا لميزانيته المحددة، ولن يفلح الانخفاض الأخير فى تغيير عادات المستهلكين وتشجيعهم على الشراء مرة أخرى بسهولة، بحسب محمد.
أما عن معدل التراجع ذاته، والذى يشهد تفاوتا كبيرا بين القاهرة والأقاليم، فيعزوه محمد إلى أن كافة جزارات القاهرة تخضع لإشراف بيطرى صارم «أى حتة لحمة فى القاهرة لازم تكون مختومة وبالتالى مدبوحة فى السلخانة فقط، لكن فى الأقاليم الذبح عشوائى بدون رقابة وغير مقتصر على الذكور، وإنما فى ذبح إناث (عزبات وأبقار)» علاوة على ذلك، يتحكم فى ثبات السعر فى القاهرة أيضا، ارتفاع فاتورة المصروفات اليومية لأى جزارة من النقل، إلى ارتفاع الإيجارات ويومية العمالة.
من ناحية أخرى، يستبعد محمد أن يكون التنافس مع اللحوم المستوردة قد أدى بأى حال للتخفيضات الأخيرة، بالرغم من تراجع أسعار اللحوم فى الأقاليم عن أسعار اللحوم السودانية المُباعة فى المنافذ قائلاً «البلدى بلدى، الذهب ملوش بديل عند زبونه».
حالة الرضا بين المُستهلكين عن التراجع الأخير فى الأسعار بعدد من مدن الصعيد، صاحبتها خسارة ذاقها مصطفى محمود، صاحب مزرعة صغيرة لتربية المواشى، بقرية «حلوة» بمركز مطاى بمُحافظة المنيا، إذ يعيش وزملاؤه فترة عصيبة وصفها بـ«خراب البيوت»، خاصة مع تزايد احتمالية الخسارة فيها كلما كان استثمار المُربى محدودًا.
ففى حين تتراوح الأسعار فى أسواق قرى المنيا بين 50 و 70 جنيها حاليًا، قُبيل عيد الأضحى كان متوسط سعر كيلو اللحم الكندوز فى الأسواق ذاتها يتراوح بين 100 و120 جنيها: «الكيلو نزل 20 جنيه بحالهم فى أسبوعين، ومكمل»، يقول مصطفى، ويعزو التراجع المُطرد لإغراق السوق باللحم المستورد الذى أصبح ملاذ المُستهلك، مؤكدًا أن الفلاح أو المُربى الصغير هو المتضرر الأول.
«الحاصل ده حرام على الفلاح البسيط اللى شارى عجل بـ 10 آلاف جنيه، على أساس يبيعه بـ 25 ألف جنيه بعدما يعلفه، فينزل السوق يضطر يبيعه بـ 15 ألفا، فمش بيجيب حتى فلوس أكله وشربه» بحسب مصطفى.
من ناحية أخرى، يُسارع مراقبون لاعتبار تراجع أسعار الأعلاف سببًا رئيسيًا فى تراجع سعر اللحوم فى الأسواق، الأمر الذى يعتبره مصطفى سببا هامشيا، وربما يكون غير مؤثر حتى ولو تأثير طفيف، نظرًا لأن التراجع الحادث ضئيل جدًا ولا يتناسب مع التراجع الكبير فى أسعار اللحوم، ويقول مصطفى: «نسبة الانخفاض فى العلف لا تذكر يعنى لو الطن نزل 300 جنيه، فالمطلوب ينزل أقل حاجة ألفين جنيه عشان يحصل التراجع المطلوب، لكن اللى حاصل إنى لو بشترى كيلو العلف بـ 5 جنيه، فهو وصل لـ 4 جنيه و80 قرش».
لم يصل التراجع الذى يشهده العلف لكافة بنود تغذية المواشى، يقول مصطفى «أحد الأعلاف كان الطن منه بـ 6600 وصل إلى 7 آلاف، أردب الدرة بـ 700 جنيه، طن فول الصويا كان بـ 5 آلاف، وصل 8800 جنيه مرة واحدة.. كل ده مع نزول الأسعار يعتبر خراب بيوت».
تواصل الانخفاض فى الأسعار، بحسب مصطفى، ينعكس على صغار المُربين بالسلب: «فى المنيا، العائلات بيبيعوا العجول اللى عندهم، وبطلوا يعلفوا، إلا لو واحد قديم فى المهنة، بيستثمر فى عدد رؤوس قليلة، الباقى بيدبحه ويقفلوا المزارع لحد السوق ما يستقر»، فيما يؤكد أن التماسُك فى هذه المرحلة حكر على الكبير فقط، بينما صغار المربين الذين يعتمدون على قروض بنكية كرؤوس أموال يواجهون أزمة حقيقية: «الناس اللى بتجيب فلوس من البنك وبتسددها بفايدة تصل لـ 20%، البنك مالوش دعوة بخسارتهم».
أحمد يوسف، مسؤول تسويق فى إحدى شركات توزيع الأعلاف بمحافظة الغربية، كان لديه تفسير لحقيقة التراجع النسبى فى أسعار الأعلاف، وارتباطه ببورصة اللحوم -رغم أن الأعلاف التى يوزعها تأتى مُسعرة من مصانعها- إذ أوضح أن الأعلاف من السلع ذات التكلفة المُرتفعة، نظرًا لأنه معظم مكوناته مستوردة: «العلف مشكلته خامته: درة، وردة، مستخلص سواء بذرة القطن أو عباد الشمس».
وعلى ذلك، تشهد بورصة الأعلاف بحسب يوسف تراجعًا على مدار الأشهر التالية لموسم عيد الأضحى «فى انخفاض حاصل طبعا، بمتوسط 300 إلى 400 جنيه فى الطن اللى وصل دلوقتى إلى 5 آلاف جنيه»، غير أن هذا التراجع ليس ببعيد عن الانخفاض السنوى المُعتاد فى الأعلاف فى الشهور التالية لعيد الأضحى، أسهمت عدة عوامل أخرى فى جعله ملحوظا أكثر من كل عام.
«تراجع سعر العلف فى الوقت ده، بالصورة دى حالة موسمية كل سنة، اللى زاد عليه سعر الدولار أسهم التراجع يكون ملحوظ أكتر» يوضح أحمد، فيما يشرح بشىء من التوضيح أن تشابك عدة عوامل عادةً هو ما يُحرك بورصة الأعلاف.
أحد هذه العوامل يكون الدورة الزراعية التى تساهم بعض محاصيلها فى تغذية المواشى جنبا إلى جنب مع الأعلاف أو تدخل فى مكونات الأعلاف «الردة مثلا مرتبطة بموسم القمح، فهل الإنتاج المحلى منها هيكفى، لما الأرض تكون مزروعة درة أو برسيم، ده بيساعد المربى فى التغذية فبيخفض الأعلاف لأن الإقبال بيقل».
بالرغم من الانخفاض الملحوظ الذى يرصده أحمد فى الأشهر الأخيرة، إلا أنه يتفق مع مصطفى فى اعتبار تراجع أسعار اللحوم وبالا على المُربين عمومًا، والصغار منهم على وجه التحديد «المربين أما بيدخلوا الدورة بتاعتهم بيشتروا منتجات الأعلاف والتغذية بالغالى، تيجى الأسعار تنخفض نتيجة إجراءات الحكومة للسيطرة على أسعار المواد الغذائية، فالوضع الحالى بيؤذى صغار المربين اللى عندهم من راسين إلى 10 رؤوس».
من ناحية أخرى، يستطيع كبار المربين امتصاص الخسارة دون تأثر كبير، بحسب أحمد، لأنه يستطيع التحكم فى تجارته وتكاليفها، كما أنه قد يستفيد من الوضع أيضًا، «التاجر الكبير ممكن يبيع رخيص، أو يشترى رخيص برضه، ويقدر يحدد يبيع إمتى أساسا».
محمود العسقلانى، رئيس جمعية «مواطنون ضد الغلاء»، والتى قادت أكثر من حملة مقاطعة فى السنوات الأخيرة ضد الغش التجارى والمغالاة فى أسعار السلع، فيُرجع الوضع الحالى فى سوق اللحوم الحمراء لقرار حظر ذبح البتلو فيقول «عدم ذبح البتلو جزء من الحكاية، لأننا كنا بندبح البتلو عند 60 كيلو، النهاردة بيقعد زى ماهو بحاله يزيد عند المربى بمعدلات كبيرة».
يذكر أن وزارة الزراعة ممثلة فى الهيئة العامة للخدمات البيطرية قررت رسميا فى فبراير الماضى تطبيق تنفيذ قرار ذبح «البتلو» رقم 1930 لسنة 2013 الخاص بحظر ذبح عجول البتلو، ومنع التصدير وتشكيل لجان رقابية مشددة بمجازر البساتين والوراق، والمنيب وحلون، لتطبيق القرار وتحويل المخالفات إلى النيابة العامة حفاظًا على الثروة الحيوانية.
ويعتبر العسقلانى أن انخفاض أسعار اللحوم يُعد مكسبًا بالنسبة للمستهلكين بالتأكيد، ولكن من ناحية أخرى، يرى أن له أبعادا ليست إيجابية تمامًا «الموضوع وسع جدًا بالنسبة للمربين، لأنه أصبح عندهم كميات مش عارفين يعلفوها لأن إمكانياتهم ضعيفة». بناء عليه، بحسب رئيس «مواطنون ضد الغلاء»، يزخر سوق اللحوم الحمراء بحالة من الذبح الكثيف معبرا عن رغبة لدى المربين فى التخلُص من العجول بخسارة أقل «المربى مافيش قدامه غير الذبح، بيقول بدل ما اتخلص منه بتلو، أتخلص منه شاب، بيكون وصل لوزن حوالى 200 كيلو، وبالتالى مابقاش بتلو، فأصبح مفيش حرج الذبح».
كنتيجة للذبح الكثيف الجائر، على حد وصف العسقلانى، تراجعت الأسعار بدرجة كبيرة فى أسواق الأقاليم، إلا فى بعض المناطق كالقاهرة ذات الوضع المختلف، والتى مازالت اللحوم تباع فيها بـ 150 جنيه للكيلو الواحد، وذلك بالرغم من أن غالبية الجزارات فى القاهرة تغذيها مزارع الصعيد والفيوم على وجه التحديد، والتى شهدت أسعار اللحوم فيها تراجعا كبيرا.
ويعتبر أن السر وراء محدودية التراجع فى القاهرة يرجع إلى سيكولوجية الزبون والجزار فى القاهرة، وارتباط الجودة بالسعر المرتفع، فيقول العسقلانى «البهوات فى القاهرة مش عاوزين ينزلوا الأسعار عشان عاوزين يحتفظوا بالسعر العالى، لأن بيترجم للقيمة عند الزبون، هو كمان عارف إن السعر هيزيد تانى والحاصل ده فقاعة مش هتقعد كتير، فالأفضل ماينزلش السعر». وعن خسارة المزارع والمربين، قال إن الخسارة فى هذه المرحلة ستقع فحسب على المُربى الصغير، فيما تعتبر فرصة ذهبية للمزارع الكبرى، والتى تستغل الأمر فى الفترة الحالية ويقوم أصحابها بنوبة شراء كثيفة استغلالاً لانخفاض الأسعار «لأن السوق واقع، ممكن تنزل تشترى عجل بتلو بألفين جنيه 55 كيلو، اللى كان زمان بـ 7 آلاف جنيه، اشتريه أعلفه وأكسب فيه، ولو معايا 100 ألف جنيه، أقدر اشترى 50 عجل».
بحكم أن جزء من نشاط «مواطنون ضد الغلاء» الإشراف على بعض المنافذ التى توفر اللحم السودانى، فيستطيع العسقلانى أن يرصد ظاهرة استثنائية تتمثل فى أن سعر اللحوم البلدية فى بعض المناطق أصبح أرخص من اللحوم السودانية «اللحم الجاموسى البلدى دلوقتى أرخص من اللحم السوداني»، بالرغم من ذلك، يعتبر أنها ظاهرة مؤقتة أو «فقاعة» على حد تعبيره.
يشرح العسقلانى السيناريو المتوقع لأسعار اللحوم فى الفترة المقبلة فيقول «الوضع الحالى مش منطقى لأ طبعا، اللحم البلدى هيرتفع سعره، بعدما نكون خلصنا على القطيع، فى ناس بتدبح إناث عشان سعر العلف، سعر العلف رغم نزوله نتيجة عدم الإقبال بيتخلص من اللى عنده عشان مايصرفش»، لكنه على ذلك، لا يعتبر أن الاستغناء عن اللحوم المستوردة، السودانية على وجه التحديد، وارد فى المرحلة الحالية.
«السودانى أزمته إن سعره زى ما هو، كان نازل فى الأول أرخص من البلدى، لكن ماينفعش نخسر اللحم السودانى لأننا معتمدين عليه طول الوقت وهو اللى بيسد مع المواطن طول السنة،، بيمولنا بكميات للجمعيات والجزارين (بياخدوا الربع الخلفي)، والمنافذ المخفضة» بحسب العسقلانى.
من ناحية أخرى، يعتقد أن المواطن هو المستفيد الأول من هذا المشهد وإن كان مؤقتًا، مؤكدًا أن الواجب حاليًا هو دعم الفلاحين وصغار المُربين، لأن عدم دعمهم فى الفترة الحالية سيدفعهم للتخلص من القطعان، ويعطى أمثلة لهذا الدعم أن يأتى فى صورة قروض ميسرة «البنك المركزى لو يقدم قروض للفلاحين، زى اللى أتاحها سابقًا، يتوسع فيها زى بداية مشروع البتلو، صعبان عليا الناس دلوقتى بيتخلصوا وهم خسرانين».
يوضح «العسقلانى»: «التجار عندهم مصطلح كده، العجل بياكل فلوس»، لأن فى عجول بعد فترة بتبقى بتاكل بدون ما ترمى لحم، وممكن يخس، فبيقول أتخلص منه أحسن». يستكمل: «الدواجن تعانى من نفس الأزمة، وتشهد التراجع ذاته».
ويفسر العسقلانى الأمر بقوله «الدواجن بتتباع بـ 17 جنيه على باب المزارع، بعدما كانت بتتباع بـ 25 جنيه»، مؤكدًا أن الدواجن أكثر قابلية للتراجع من اللحوم «لأنه لو ماتخلصشى منها هتعمله مشكلة»، علاوة على أن اللحوم فى علم الاقتصاد يطلق عليها «سلعة قائدة»، والتى يُعرفها خبراء الاقتصاد أنها السلعة المتحكمة بورصتها فى بورصة السلع الأخرى «أما اللحمة ترخص، الفراخ بترخص والبيض بيرخص».