بقلم: عادل جرجس
عاد بسلامة الله إلى أرض الوطن قداسة البابا شنودة الثالث بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بعد رحلة علاجية قصيرة لعمل بعض الفحوصات، وقداسة البابا هو الشخصية الكارزمية التي سوف يتوقف التاريخ عندها طويلاً وكثيرًا، فلقد تعدى مقام قداستة إدراجة ضمن قائمة باباوات الكنيسة فهو قديس الكنيسة الذي أعاد إحياء الأرثوذكسية على مدى قرابة الأربعين عامًا ويعتبر بحق عصر قداسته عصر النهضة العقائدية والروحية والتنويرية داخل الكنيسة القبطية، هذا العصر الذي كرس فية قداسته لمفهوم إعمال العقل في فهم وتفسير النص الدينى بعيدًا عن التفسير الغيبي الذي يرى أنه يجب أن تؤخذ العقيدة هكذا على علتها فليس بالإمكان أبدع مما كان.
ولعلنا نجد هنا أنه من المفيد رصد السمات العامة لمنهج قداسة البابا في التعليم والتفسير، هذا المنهج الذي يشكل فلسفة في حد ذاتها قائمة على الترسيخ للإيمان بعيدًا عن تغييب العقل واحترام الإرادة الحرة للإنسان فأصبح الإيمان قائم على الإختيار وليس على الإذعان والتغيب، وتتجلى في هذا الشأن العديد من السمات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- استعان قداسة البابا بالتفسير المعرفي لخلق نظام فلسفي قائم على النظر العقلي المستوحى من النص الإنجيلي، مستوعبًا ضرورة انفتاح المسيحية ومحاورة الآخر، بالرفق والتدرج والتأني في التفسير، بعيدًا عن الإقصاء والإلغاء والاستعلاء.
2- التأني والتلطف في البحث، وذلك بهدف الوصول الدقيق للمفهوم اللاهوتي الصحيح.
3- التقليب، حيث نجد أن قداستة قد يتناول المصطلحات بطرق تفسير متعددة ومختلفة ليصل في كل مرة إلى تعريف ثابت لم يتغير على الرغم من تعدد طرق الوصول إلى ذلك.
4- لم يتوقف عند حدود العقل بوصفه القدرة الإدراكية والاستيعابية للإنسان، وإنما توغل في الفكر الإنساني مقلبًا لأوجه المعرفة العلمية، وفق ما تطلبته شروط البرهان والاستدلال، واستثمر ذلك لخلق نظام معرفي لاهوتي.
5- إكتمال المعرفة من خلال التراكم العلمي، وقد سلك قداستة هنا مسلك الطريق البرهاني لمفهومه الفلسفي وفق آلية التدرج والترتيب، وذلك من خلال منهجية إذا ما عرضت على العقول تلقتها بالقبول، ولم يعتمد على الدفع الفلسفي للمفهوم والذي كان ممكن أن يصطدم بالمتلقي.
تلك هي بعض سمات المنهج الفلسفي لقداسة البابا المعلم والتي لا يتسع المجال هنا لحصرها كلها، والعجب العجاب في هذا المنهج هو صياغته بأسلوب السهل الممتنع، فقداسته يقدم منهجه الفلسفي للعامة حسب بساطة تفكيرهم.
عصر النهضة
تتعدد المظاهر والسمات التي تبين مدى النهضة الروحية والعقائدية التي أصبحت تعم جنبات وأركان الكنيسة في كل حدب وصوب في عصر قداسة البابا المعلم فليسوف الكلمة، ومن المعروف أن العصور المختلفة لبطاركة الإسكندرية خلفاء القديس ما رمرقس كانت تحفل بالعديد من المعجزات، ويعتبر التعليم هو المعجزة الكبيرة والمستديمة لعصر النهضة الأرثوذكسية عصر البابا شنودة الثالث، وللوقوف على سمات تلك النهضة يجب علينا أن نقسمها إلى قسمين:
أولاً حسب الشكل:
وتتعدد هنا مظاهر الشكل النهضوي داخل الكنيسة نذكر منها..
* التوسع في إحياء الحركة الديرية والرهبانية.
* تحول الكنيسة إلى مؤسسة خدمية مجتمعية تهتم بالصحة والتعليم وتنمية المجتمع والعديد من الأنشطة إلى جانب دورها الديني الرعوي بعد أن كانت الكنيسة مكانًا للعبادة فقط.
* إنتشار الكليات والمعاهد الإكليريكية في جميع أنحاء الكرازة.
* تأسيس كنائس وإيبارشيات في بلاد المهجر.
* ربط الإيبارشيات بعضها ببعض عن طريق التوسع في إقامة الأنشطة والمؤتمرات بعد أن كانت كل إيبارشية مغلقة على ذاتها وأبنائها.
* خلق إعلام كنسي موجه ومتخصص.
* ترسيخ الدور القومي والوطني للكنيسة القبطية وتبني مواقف من القضايا العامة مثل موقف الكنيسة من القضية الفلسطينية.
ثانيًا على مستوى المضمون:
* إعادة إحياء التقليد الآبائي والتسليم الرسولي.
* ترسيخ العقيدة وتأصيل الطقس عن طريق التوسع في إقامة النهضات الروحية.
* المشاركة في المؤتمرات المسكونية والعمل على إزالة الخلافات اللاهوتية والعقائدية بين الكنائس في العالم، وسوف يسجل التاريخ فضل الكنيسة القبطية في توحيد الكنائس الخلقدونية واللاخلقدونية وإزالة الحروم بينهما.
* التصدي لكل البدع والهرطقات الحديثة التي ترد على الكنيسة.
* تنقية إيمان الكنسية أولاً بأول من أصحاب الإنحرافات العقائدية.
لذلك يجب علينا جميعًا أن نفخر بأننا عاصرنا هذا القديس المعلم بل أننا جميعًا قد تربينا تحت أقدامه وتمتعنا بأبوته الحانية وإرشاده القويم، وعلى الرغم من قوة وشدة التحديات في هذا العصر إلا أن عناية الله لم تترك الكنيسة في مهب الريح، فلقد دبرت العناية الإلهية وجود قديس الكنيسة البابا شنودة الثالث والذي أرى أنه يستحق وعن جدارة أن تلقبه الكنيسة بأبو التعليم.
فحمدًا لله على سلامة قداستكم يا أبينا البابا القديس المعلم ومتع الله قداستكم بموفور الصحة والعافية ومتعنا بأبوة قداستكم إلى المجيء الثاني لرب المجد.