القمص اثناسيوس فهمي جورج
الأصل في القانون الكنسي هو التأكيد على أن السيد المسيح ضابط الكل، هو رأس وأساس ومركز ومصدر ودفة حياة الكنيسة وحده، وهو الممسك بها ليقودها لميناء الخلاص؛ ميناء الذين في العاصف، وهو الضامن والحافظ لسلامتها واستقامة حياتها وشركتها ومسيرتها حسب استعلانه، فلا يبقى شيء غير خاضع له؛ لأنه إذا خضع له الكل؛ لم يترك شيئًا غير خاضع له. فمتى كان هناك حكم سماوي كانت النظرة إليه نظرة الخضوع وليس مجرد وضعه في موضع الأخذ به أو عدم الأخذ (الانتقاء)؛ فالخضوع الأمين والمستجيب والمرغوب للأحكام السماوية هو الأصل... عندما يكون المتكلم الآمر هو الله فلا إعفاء من أحكامه وقوانينه؛ من أجل هذا لا تأتي قوانين كنيسة الله في نسق اختياري؛ بل يستلزم معها القبول والرضائية وحتمية الخضوع لتحقيق الوحدة والبنيان.
أحكام الشريعة هي مصدر حياة ونمو المؤمنين؛ التي تمدهم بنور الفهم والتبصر؛ لتصحيح مسار الحياة نحو الأفضل لإدراك وبلوغ رضا القدوس مؤسس هذه الشريعة وصانعها؛ بحيث تتحول القواعد إلى تطبيق ولهج وعجائب وسلامة جزيلة من غير تقلب؛ إذ لا توجد أي قاعدة في الكنيسة إلا وتصب في خانة خلاص النفس، وهي مملوءة حرية وترفقًا وسلامًا وبنيانًا؛ محققة لجميعها؛ لأن الرحمة تفتخر على الحكم... خُلوًا من الحيلة والالتواء والاستمالة الخفية والنفسانية الهوائية المشبعة بالميول الذاتية المجردة (نفسانيون لا روح فيهم)؛ بل على العكس مُمَكِّنة لكل ما يحق لدعوة إنجيل المسيح.
والذين يسلكون وفقًا للتسليم هم يخضعون بالأولى لأبي الأرواح فيحيوا؛ سالكين بحسب القانون؛ ومن ثم يحل عليهم سلام ورحمة... إذ لا يُكلل أحد إن لم يجاهد قانونيًا، ومن هنا تأتي اللزومية القانونية لتشمل كل طغمات الكنيسة؛ لأن كل من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء؛ وهي حلقة مرتبطة ترتبط بصحة الرأي واستقامة الحياة بجملتها؛ مؤسَسة على عدم القابلية للمؤثرات الشخصية والأهواء؛ أمام ما استقرت صحته وتثبَّت؛ في الكتب المقدسة أنفاس الله؛ وفي قوانين الرسل والدسقولية وأحكام المجامع المسكونية الثلاثة وقوانين الآباء الأولين.
والناظر إلى تطور تاريخ القانون الكنسي فقهيًا وعلميًا؛ قد لا يجد تقنينًا كنسيًا جامعًا وكاملاً؛ إلا أن عدم وجوده لا يُنشئ حالة من ضياع المفاهيم؛ فما احتوته الأحكام الكنسية من لمعان وبهاء قدسية واستقامة جعلها حية منقوشة وثابتة في الوجدان الكنسي؛ راسخة لا تموت ولا تتحوَّر أو تتبدل ويصيبها الوهَن؛ لأنها متصلة اتصالاً وثيقًا بإيمانيات الحياة والسيرة المسلَّمة مرة من القديسين، فلا اجتهاد فيها لأنها ليست خاضعة للأمزجة وللمقتضيات الوقتية؛ باعتبار أنها دستور كنسي؛ فيما عدا المنحول منها وغير المدقق؛ والذي لا حُجة ولا شرعية له.
وأهم ما يميز القوانين الكنسية هو ملاءمتها النقية للمبادئ الإلهية والأحكام السماوية إيمانيًا وعقائديًا؛ بحيث لا تخالف وصايا الإنجيل والمبادئ والتقاليد والممارسات والطقوس التي تقوم عليها؛ في نظام قانوني مُحكم كقضيب مستقيم في كيانه وطبيعته التي تختلف عن نُظم قوانين العالم؛ لأنها تستند بالأصل العام للأساس الروحي الكنسي؛ الحاوي للمفاهيم الإلهية. كذلك الإنسان الروحي الذي يحيا بحسب الروح يحكم في كل شيء ولا يُحكم فيه من أحد (۱ كو ۱٥:۲)، وذلك الحكم لا يأتي بحكمة إنسانية مقنعة؛ بل ببرهان الروح والقوة الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لذلك كل نص قانوني يستلزم تأصيله وفهمه وتفسيره وتطبيقه على أساس روحي تقوي؛ من أجل معرفة مشيئة الله في كل حكمة وفهم روحي (كو ۱٠:۱). ولأن قوانين الكنيسة هي القوانين المُنظمة لبيعة الله؛ لذلك أمور الله لا يعرفها أحد إلا بروح الله وإرشاده واستنارته واستبصاره؛ لبلوغ الأشياء الموهوبة لنا في نقاوة ووقار؛ مقترنًا بالمحبة التي هي أساس البنيان.
وصفات الوقار والبهاء والاستقامة؛ هي ركائز خدمة بيت الله ومحل مسكنه الواجبة لكل من يفصل كلمة الحق بالاستقامة؛ لأجل تجديد روح الاستقامة في أحشاء المؤمنين؛ فيفهمون ويبصرون ويفرحون بذاك الذي جعل الأبوّات مثل الخراف؛ رئيس الرعاة الأعظم ورئيس كهنة الخيرات العتيدة؛ مصدر وموزع العطايا والأسرار؛ وكل عطية صالحة وتامة هي من عنده؛ من عند أبي الأنوار؛ هي منه وتخصه؛ لأننا نحن جميعًا رعيته وخدامه وأهل بيته... كذلك لا بد أن تتلازم المعرفة مع التطبيق؛ والفهم مع العمل والحياة بنص وروح القوانين في تفسيرها وتفصيلها وشرحها من غير اعوجاج أو انتقاء أو توظيف ذاتي؛ بل تفسير حُر لمجد أولاد الله؛ بعيدًا عن الحروف القاتلة التي لا تبني (لأن الحرف يقتل أما الروح فيُحيي).
فليس المقصود الالتزام فقط بحرفية النصوص؛ لكن بروحها ونسيم فاعليتها وعبير بركة تطبيقها (ثمارها)؛ في كنيسة تحفظ التقليد وتحيا التسليم وأصوليات الإيمان وفقًا لحكمة وفطنة الذين سبقونا؛ ونحن في إثرهم نقتدي بعطية الفهم الروحي لاستشفاف مشيئة الله وتمييز الأمور المتخالفة غير محمولين بكل ريح؛ بل في تواضع غسل الأرجل من أجل البنيان... خاصة لأن قاعدة هذه القوانين الكنسية ليست أرضية؛ لكنها من أجل هدف سمائي أفضل؛ حتى وإن كانت تخدم الكنيسة المستوطنة هنا على الأرض؛ وعقوبة مخالفتها هو بطلان العمل وانعدام الشهادة والخدمة؛ وهي عقوبة ثقيلة لمن يعرف أن يرى... تقع على من يُرضي نفسه بالنزعات والشهوات ويتسلط على المقادير والأنصبة؛ مُسقطًا أعماله في العدم والسقوط المريع.
من أجل هذا لا يتوقف تفسير القوانين الكنسية عند التفسيرات الوصفية أو التعليق على الأحكام الوضعية أو التفسيرات الأدبية والاجتماعية؛ لكنه يرتبط بالقصد الروحي والخلاصي... الخالي من الضلال والدنس والمكر والتملق والنفسانية والطمع والهيمنة؛ لأنها قوانين ذات طابع إلهي مرتبطة في كل شيء بالأصل الكتابي والإيماني والعقيدي العام؛ ومطبَّقة ومستوعَبة لرسم الانضباط الكلي للصرح الكنسي بأسسه ومقدساته وقيمته الجوهرية... وبالجملة نقول إن القانون الكنسي علم لاهوتي أصيل؛ فاتبعوه؛ من أجل تحقيق الإرادة الإلهية.