منى أبوسنة
كيف يمكن تحقيق اللادوجماطيقية في الشرق الأوسط في تقديرى أن ثمة طريقين، الأول هو أن تكون اللادوجماطيقية هي حجر الأساس لحركة تنوير جديدة تدعو إلى بث فلسفة التأويل في الأديان الثلاثة في الشرق الأوسط وهى اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد أنجزت المسيحية حركتين تاريخيتين، هما حركة الإصلاح الدينى في القرن السادس عشر، وحركة التنوير في القرن الثامن عشر، وينبغى تبنى هاتين الحركتين بما يتلاءم مع البيئة الثقافية للشرق الأوسط المحكومة بالمحرمات الثقافية. وفى الإسلام كان الفيلسوف ابن رشد هو رائد التأويل في القرن الثانى عشر فقد أدخل فلسفة التأويل للنص الدينى كبديل لعلم الكلام بيد أن هذه الفلسفة اُجهضت عندما أحرقت مؤلفات ابن رشد وتم نفيه في بلدته ليقضى فيها بقية عمره، وكان ذلك بسبب مؤامرات علماء الكلام التي أفضت إلى قرار الخليفة بحرق كتبه ونفيه، أما في اليهودية فقد حاول موسى بن ميمون تلميذ ابن رشد أن يسير في طريق أستاذه وقد خالفه النجاح إلى حد بعيد عندما كتب ما يعرف بـ «المشناة» وهى محاولة لفلسفة التوراة بمنهج عقلى. وقد أصبحت جزءاً من التراث الدينى اليهودى إلى جانب التوراة والتلمود.
هذا عن الطريق الأول، أما الطريق الثانى لبث روح الدوجماطيقية هو التعليم أو بالأدق التعليم الإبداعى، إذ هو حق أساسى من حقوق الإنسان لأنه أصل الحضارة التي أبدعها الإنسان من خلال إعمال عقله في الطبيعة وكل هذا في إطار تأسيس حركة تنوير جديدة تستند إلى الفكر الناقد والمبدع من منظور فلسفى يحرر العقل من المحرمات الثقافية التي تعوق نمو المجتمعات في الشرق الأوسط وتمنعها من أن تكون مكافئة للمجتمعات الغربية وتحولها إلى مجرد مستهلكة للمعرفة التي ينتجها الغرب، وتنشد حركة التنوير الجديدة تحويل هؤلاء المستهلكين للمعرفة إلى منتجين لها من خلال إثراء الحضارة الإنسانية. والغاية الحضارية من حركة التنوير هي علمنة التراث الثقافى وذلك بإخضاعة للتأويل من أجل اجتثاث كل ما هو لا عقلانى في تلك الثقافات وعقلنتها من خلال الكشف عن جذور المعتقدات في الواقع الثقافى الاجتماعى الذي أفرزها. ومن ثم تحول هذه المعتقدات المطلقة الكامنة فيما يعرف بالتراث القومى أو الشعبى إلى معرفة نسبية. والتفكير الناقد هو وسيلة التأويل لأنه مضاد للدوجماطيقية التي تلح على التمسك بالمعتقدات القائمة، وبالتالى ترفض أي معرفة جديدة بدعوة أنها تناقض القديم، ثم إن التفكير الناقد يكشف عن جذور الأشياء والظواهر، وحيث إن الفكر الأسطورى هو الملمح الرئيسى للمعرفة القديمة فإن التحليل العقلانى لجذور الفكر الأسطورى هو بمثابة التدريب على التفكير الناقد. ومعنى ذلك أنه لا ينبغى تناول الفكر الأسطورى من حيث هو كذلك، وإنما ينبغى التركيز على الملامح الرمزية الكامنة في الفكر الأسطورى، والتى تشير إلى ما يختفى وراء الأسطورة، وهنا يكون لمنهج ديكارت دلالة متميزة في مجاوزة الدوجماطيقية التي تستند إلى تصورات أسطورية لا عقلانية ومن هذه الزواية يلزم مراجعة التيارات التقليدية في نظرية المعرفة، والتى تركز على العلاقة بين المعرفة والحقيقة ذلك أن العلاقة ينبغى أن تكون بين العقل والواقع، وليس بين العقل والحقيقة. وفى إطار هذه العلاقة فإنه يمتنع الوقوع في براثن الدوجماطيقية لأن الدوجماطيقية تعنى توهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وعندما نحذف الحقيقة فإنه في الوقت نفسه نحذف الدوجماطيقية، وفى هذا الإطار ينبغى مراجعة المفهوم التقليدى لحقوق الإنسان الذي ينص على أن كل إنسان له نفس الحقوق بغض النظر عن الدين والجنس والعنصر. بيد أن ثمة سؤالا لابد أن يثار:ـ كيف يمكن أن نسمح للدوجماطيقى أن يكون له نفس الحقوق الإنسانية في حين أنه ينفى هذه الحقوق عن أولئك الذين لا يدينون بدينه أو يدينون بدينه ويخالفونه في الرأى إلى الحد الذي يصل فيه إلى إرهابهم بدعوى أنهم مهددون لدينه أو بالأدق لمطلقة، وإذا كانت الدوجماطيقية مهيمنة في القرن الواحد العشرين فمعنى ذلك أن الإرهاب مهدد لحقوق الإنسان، ولذلك ينبغى أن تكون هذه الحقوق مقصورة على أولئك الذين ليسوا دوجماطيقين، ومن ثم يلزم أن ندعو إلى اللادوجماطيقية حتى يبرأ الدوجماطيقيون من دوجماطيقيتهم.