عندما يشيد المصريون بالدور المشرف والمتفاني الذي يؤديه الجهاز الأمني من أجل حماية الجبهة الداخلية ضد الأخطار المحدقة بها, وعندما يعربون عن خالص تقديرهم لليقظة الأمنية التي تبذل قصاري جهدها للحيلولة دون وقوع الجريمة وإجهاض الأعمال الإرهابية قبل تنفيذها, وعندما يعربون عن عرفانهم لكل تضحيات رجال الأمن والثمن الفادح الذي يدفعونه عن طيب خاطر فيمن يصاب منهم أو يسقط شهيدا أثناء تصديه للشر بشتي صوره.. فإنهم بذلك يقدمون درع البطولة والكرامة والاعتزاز لكل قيادة ولكل رتبة ولكل فرد في هذا الجهاز الأمني.
ولعل هذه المشاعر الوطنية الدافئة التي باتت تربط المواطن المصري بجهاز الأمن ورجال الشرطة ليس سببها فقط ما أسلفت به حول دورهم في ترسيخ الأمن والأمان, إنما أيضا ما صاحب ذلك من تطوير شكل العلاقة بين رجل الشرطة والمواطن ليحكمها الاحترام والكرامة والقانون, فلا تغول للشرطة في تعاملها مع المواطن, ولا بطش في أدائها لواجبها يأتي علي حساب كرامته, ولا انفلات غير مبرر في تحري الفساد وتعقب الجريمة.. وأصبح ما يدعو للارتياح شعور المواطن أن الشرطة باتت تلتزم بصحيح القانون وتبتعد عن ترويعه أو الاستخفاف بحقوقه أو معاملته علي أنه مذنب حتي تثبت براءته.
إذا عندما تحدث أية تجاوزات في أداء ممثلي الأمن أو الشرطة من شأنها أن تفسد الصورة فمن حق المواطن أن يتضرر ويعترض ويعبر عن قلقه من شبهة عودة تغول الشرطة, ومن واجب القيادات الأمنية أن تسارع بمراجعة تلك التجاوزات وتتخذ كل الإجراءات التي من شأنها طمأنة المواطن وإعادة الأمور إلي نصابها الصحيح.
ومن الأمور التي حدثت خلال الأسابيع القليلة الماضية واتسمت بالغرابة, بل وسببت استنكارا وغضبا لدي من تعرضوا لها وجود ممثلين للأمن -سواء في الزي الرسمي للشرطة أو بدون- عند نقاط محددة في الشارع من بينها محطات مترو الأنفاق يستوقفون المواطنين ويطلبون منهم إبراز بطاقات الهوية -أي الرقم القومي- لتحقيق الشخصية وذلك أمر طبيعي لا غبار عليه ويجب أن ينصاع له أي مواطن دون توجس أو اعتراض, كما أنه يعكس أحد جوانب اليقظة الأمنية المطلوبة والمبررة في الظروف التي تمر بها بلادنا.. لكن أن يطلب ممثلو الأمن من المواطنين أن يسلموهم هواتفهم المحمولة, ويفتحونها ويتجولون في محتواها ويفحصون ما بها من بيانات أو معلومات علي قارعة الطريق, فذلك أمر علي درجة كبيرة من الغرابة وسبب ارتباكا وترويعا للمواطنين, وأعاد للأذهان الصورة القديمة للشرطة التي تتغول في أداء دورها والتي تتجاوز صحيح القانون مطمئنة لحصانتها التي تجعلها في منأي عن المساءلة.
هذه الأنباء أغضبت الكثيرين وأقلقت الكافة, فالأصل أن جميع صور التدقيق أو التفتيش في المتعلقات الخاصة أو الممتلكات التي تتجاوز بطاقة الهوية للمواطن يجب أن تتم بناء علي تصريح من النيابة العامة أو جهات التحقيق القانونية, وتلك التصاريح لا تصدر بصفة العمومية أو الشمولية علي جموع المواطنين بل تصدر محددة بالاسم والمكان لخدمة أهداف الأمن والتحقيقات, وحتي في حالة التوصل إلي مواطنين تنطبق عليهم معايير الاشتباه من خلال فحص بطاقات هويتهم يتم إحالتهم إلي أقسام الشرطة وإخطار جهات التحقيق لإصدار تصريح التفتيش المحدد باسمهم وليس الشروع في مصادرة هواتفهم وفحصها في الطريق العام!!
الجدير بالذكر أنه لدي انتشار أنباء تلك الوقائع سارع المجلس القومي لحقوق الإنسان بإصدار بيان يؤكد أن فحص هواتف المواطنين يخالف القانون والدستور.. بينما جاء الآتي علي الصفحة الرسمية لوزارة الداخلية: بيان أمني: صرح مصدر أمني بأن ما جاء ببيان المجلس القومي لحقوق الإنسان اعتمد علي معلومات مصادر غير موثوق بها تسعي لإحداث نوع من البلبلة والتوتر في الشارع المصري وأن جميع حالات الضبط التي تمت خلال الأيام الماضية جاءت وفقا للقانون التي من بينها حالات التلبس التي تتيح لمأموري الضبط القضائي تفتيش الأشخاص وما بحوزتهم من متعلقات منقولة كالهواتف المحمولة أو خلافه وفقا لصحيح القانون.. وتهيب وزارة الداخلية بضرورة الحصول علي المعلومات من الجهات المعنية.
تبقي لدي التعليقات الآتية علي بيان وزارة الداخلية:
** ما عرفته أنا عن تفتيش الشرطة لهواتف المواطنين بلغني ممن تعرضوا له وممن شاهدوه, فلا أنا ولا المجلس القومي لحقوق الإنسان اعتمدنا علي معلومات من مصادر غير موثوق بها.
** ما أقدم عليه بعض ممثلي الأمن من فحص الهواتف المحمولة للمواطنين هو الذي ساهم في إحداث نوع من البلبلة والتوتر في الشارع المصري وكان من المتوقع أن تقدم وزارة الداخلية تفسيرا لذلك بالاعتذار عنه وإصدار تعليمات لممثليها بالإقلاع عنه لإعادة جو الطمأنينة والاحترام بين المواطن ورجل الشرطة في الشارع.
** ما ساقه البيان من صحيح تفتيش مأموري الضبط القضائي للأشخاص في حالات التلبس هم وهواتفهم المحمولة ومتعلقاتهم هو مسار محدد يرسمه القانون وهو لا ينطبق علي ما حدث في الطريق العام وصدر إحساسا بعودة تغول الأمن والشرطة.