عاطف بشاي
الفنون جنون.. وبين عبقرية الفنان والجنون خيط رفيع ذلك لأن العبقرية استثناء وخروج عن المألوف.. وكذلك الجنون.. يقول «أندريه جيد» إن أجمل الأشياء هى تلك التى يوحى بها الجنون ويكتبها العقل.. ويرى «فرويد» أن الفنان العبقرى عصابى يهرب من الواقع عن طريق إشباع بديل.. ولا عجب فإن «فرجينا وولف» مثلًا كانت لا تكتب إلا أثناء تعرضها لنوبات عنيفة من الهوس أو المرح الذى تنزوى بعده فى حالة من الاكتئاب الحاد.. و«فان جوخ» أبدع أروع أعمالة التشكيلية وهو نزيل مستشفى للأمراض العقلية.. ومع أنه لم ينقطع عن الرسم فى حماس إلا أن النوبات كانت تداهمه بانتظام.. مرتين أو ثلاثا كل شهر.. وفى ليلة حاسمة اتخذ قرارا فخرج إلى حقل مجاور وأطلق الرصاص على نفسه بعد أن ترك رسالة لأخيه يقول فيها: «لقد جازفت بحياتى فى سبيل فنى الذى من أجله فقدت رشدى».
و«فان جوخ» له مكانة عظيمة فى تاريخ الفن التشكيلى فهو الذى أنشأ المدرسة التعبيرية قبل أن تظهر فى المانيا.. والتى تهتم بالتعبير عن أعماق الفنان وخفايا نفسه وما يعتمل فيها من صراعات عن طريق استخدام ضربات الفرشاة واتجاهات الخطوط والمساحات الملونة التى تعكس انفعالات الفنان الصاخبة والتى تضج بالحياة والحركة.. وتحتل أعماله مكانًا بارزًا فى متاحف العالم.. وتضطر الشرطة دائمًا إلى التدخل لتنظيم حركة المرور أمام القاعة أو المتحف الذى يقيم عرضًا للوحاته بسبب شدة تزاحم الناس وإقبالهم على مشاهدة لوحاته التى زادت إلى أكثر من (700) لوحة و(1000) رسم.. وهو صاحب لوحة أزهار الخشخاش (1886) التى سرقت من متحف «محمد محمود خليل» (2011).
ويعتبر «فان جوخ» من أشهر نجوم مرض الفصام البارانوى.
■ ■ ■
- أنت رائعة الجمال «يا راشيل»
هذه الجملة قالها «فان جوخ» لفتاة البار فى ملهى.. وهو يتأمل وجهها فى إعجاب.. فابتسمت له الفتاة ورددت فى دلال وترغيب:
- إننى أحب أن تعجب بى الرجال.. فكم هذا جميل.
وحينما هم الفنان بالانصراف قبلت أذنه مرددة:
- إن لك أذنًا صغيرة جميلة كأنها أذن جرو.. تعال لترانى كل ليلة.
- ليس كل ليلة فليس لدىّ المال اللازم لذلك.
- إذا لم يكن معك المال.. فأعطنى أذنك.. إننى أحب أن أقبلها كل ليلة.
وودعته وهى تكرر مؤكدة: لا تنس أن تبعث لى بأذنك الصغيرة.
بعد فترة يذهب «فان جوخ» مرة أخرى ذات ليلة إلى الملهى ورأسه معصوب بضماضات كثيرة.. وما إن يرى الفتاة حتى يمد يده بلفافة مربوطة مرددًا: إليك هذا التذكار.
تحل الفتاة الرباط فيظهر على وجهها أقصى درجات الذعر والهلع حيث تجد بداخل اللفافة أذنًا يقطر منها الدم.. وتسقط مغشيًا عليها.
إن حالة «الفصام البارانوى» هنا تبدو واضحة جلية حيث يعانى المريض من ظاهرة خداع الحواس المتمثل فى الهلاوس السمعية والبصرية.. وهى مدركات حسية ليس لها أى مصدر فى العالم الخارجى.. فيسمع المريض أصواتًا تتحدث إليه.. كذلك يرى أشخاصًا أو أشياء غير موجودة فى الواقع.
يمكننا أن نستنتج إذًا أن واقعة قطع «فان جوخ» أذنه وإهدائها للغانية القائمة على الحوار الذى تم بينه وبينها، أن هذا الحوار لم يتم فى الواقع ولكن تم تحت تأثير الهلاوس السمعية حيث تصور أن تلك الفتاة الجميلة تبادله الحب كرد فعل لإحباطاته السابقة فى علاقته بالمرأة.
و ما يجعلنا نميل إلى هذا الاعتقاد ارتباط عرض آخر من أعراض الفصام- بالإضافة إلى الهلاوس السمعية والبصرية- بحالة «فان جوخ».. هو سيطرة المعتقدات الضلالية على عقله.. تلك المعتقدات التى تتزايد فيها شكوك المريض فى الآخرين.. حيث يعتقد أنهم ينظرون إليه نظرات مريبة.. ويسخرون منه.. ويميل إلى تأويل الوقائع والأشياء تأويلًا غريبًا لا يشاركه فيه أحد.. فيتصور مثلًا أن بيته قد ثبتت بداخله أجهزة تنصت ترصد تفكيره.. أو أن طعامه قد وضع فيه سم.. كما أنه يقتنع اقتناعًا تامًا أن بعض الناس تعمل على اضطهاده أو إيقاع الأذى به.
ما يؤكد ذلك أنه بعد حادثة قطع «فان جوخ» أذنه وإهدائها للغانية بعدة أسابيع حدث أن كان ذات ليلة فى أحد المطاعم وإذا به ينتفض فجأة ويدفع بالطبق إلى الأرض ويركل المائدة بقدمه وهو يصيح فى ثورة عارمة: إنكم تريدون أن تسممونى.
وحضر رجال الشرطة وحملوه إلى المستشفى وما لبث الطبيب أن قرر إدخاله مستشفى «سان ريمى» للأمراض العقلية.
نقلا عن المصرى اليوم