مراد وهبة
نشأت العلمانية في العصر اليونانى القديم، حيث كان العالم عبارة عن الإنسان الذي يحيا في بيئة طبيعية. ولهذا كان يقال عن الفلاسفة إنهم علماء الطبيعة. وكان أشهرهم ثلاثة: طاليس وأنكساغوراس وبروتاغوراس. قال طاليس عن الماء إنه أصل الأشياء لأن الأرض قرص مسطح عائم فوق الماء والشمس والقمر والنجوم. وقال أنكساغوراس إن الشمس والكواكب من طبيعة الأجسام الأرضية فاتهم بالإلحاد لأن الأثينيين كانوا يعتقدون أن ما هو سماوى فهو إلهى وكان عقابه المنفى. وأظن أنه أول إنسان يلقب بـ «الكافر» في تاريخ الحضارة الإنسانية. وارتبط الكفر بالجسارة في إعمال العقل، لأن هذه الجسارة تقف عند حد النسبى ولا ترقى إلى حد المطلق. والوقوف عند حد النسبى ينطوى على تجاهل للمطلق. وعندئذ يتهم صاحب التفكير بالنسبى بأنه كافر. ومع ذلك فقد جاء بروتاغوراس ولم ينشغل بما حدث لأنكساغوراس فذهب إلى الحد الأقصى للتفكير بالنسبى وقال عبارته المشهورة «الإنسان مقياس الأشياء». وقد قيل بعدها إنه أُقصى عن أثينا، وقيل أيضًا إنه حُكم عليه بالموت، ولكنه تمكن من الهرب.
وفى عام 399 ق.م. وجهت إلى سقراط ثلاثة اتهامات: إنكار آلهة أثينا، والقول بآلهة جدد، وإفساد عقول الشباب بتنفيرهم من الديانة الموروثة. وأبى سقراط أن يستعطف المحلفين في المحكمة بل قال لهم إنه أراد تنوير مواطنيه وهدايتهم بتعاليمه، ومع ذلك حكم المحلفون عليه بالإعدام، وذلك بتجرع السم. ومغزى هذا الإعدام منع نقد المطلق، لأن هذا النقد من شأنه تحويل المطلق إلى نسبى، وبالتالى يمكن تغييره.
ومن بعد سقراط حاول كل من أفلاطون وأرسطو تثبيت المطلق ورفعه فوق سلطان العقل، فارتأيا أن ثمة عالمين: عالم المثل وعالم المحسوسات، والله هو علة نموذجية تحتذى. ومن ثم انحاز أفلاطون إلى التفكير بالمطلق دون التفكير بالنسبى فوقف ضد الطبيعيين الأوائل وضد السوفسطائيين الذين يمثلهم بروتاغوراس، وامتنع عن الانزلاق نحو نقد المطلق على نحو ما ارتأى سقراط. ثم جاء أرسطو وألف علمًا يتناول قضايا مجاوزة لما في الطبيعة. ووضع هذه القضايا فيما بعد تحت اسم «ما بعد الطبيعة» أو الفلسفة الأولى التي تعنى التفكير بالمطلق الذي يمتنع معه المساس بالنسبى.
وفى العصر الوسيط ازداد التوتر بين المطلق والنسبى، أو بالأدق بين الدين والفلسفة فوضع أوغسطين حدودًا للعقل حتى ينتفى التناقض بين الحقيقة اللاهوتية المطلقة والحقيقة الفلسفية النسبية، فارتأى أن الإيمان ليس له من وجود إلا في العقل، وبعد ذلك تكون مهمة العقل فهم هذا الإيمان بحيث نقول «آمن كى تتعقل». وهكذا يجمع أوغسطين بين العقل والإيمان في وحدة على الرغم من تمايزهما. وكما فعل بالعقل والإيمان فعل بالمدينتين الأرضية والسماوية. فالأولى خاضعة للثانية على الرغم من تباينهما. ومع ذلك فإن الأمور لم تستقم على نحو ما ارتأى أوغسطين، إذ نشبت حروب عنيفة في القرن العاشر عندما غزا النورمانديون فرنسا وخربوا الأديرة والمدارس واستمر الاضطراب إلى منتصف القرن الحادى عشر.
والسؤال إذن: ماذا حدث بعد ذلك؟
نقلا عن المصرى اليوم