عادل نعمان
الطفلة «جنة محمد سمير» ماتت فى المستشفى متأثرة بجروحها، جروح متقيحة، وكى فى جسدها النحيل، وحروق فى عضوها التناسلى، وبتر فى الساق اليسرى، الطفلة ورفيقتها وشقيقتها «أمانى» فى رحلة التعذيب، لأبوين كفيفين انفصلا منذ أربع سنوات، وانتقلتا إلى حضانة جدتهما من الأم، الجدة والأخوال متهمون بتعذيب الطفلتين، ماتت واحدة من شدة التعذيب والإصابات التى أدت إلى فشل وظائف جسدها الشاحب النحيل، وهبوط حاد فى الدورة الدموية والتنفسية، وما زالت الأخرى على قيد الحياة. يوم الاثنين الماضى، نيابة الأقصر تقرر حبس أم متهمة بقتل طفلتها الرضيعة وإلقائها فى ترعة بقرية القرنة غرب الأقصر، تقدمت الأم ببلاغ تتهم الأب بخطف رضيعتيهما، وبتضييق الخناق على الأم اعترفت بإلقاء طفلتها ذات الأربعين يوماً «حية» فى إحدى الترع للتخلص منها وإلصاق التهمة بزوجها.
المرج عام 2016 فى شهر رمضان الأب «أحمد» والأم «إيمان» يقتلان «ملك وجنى» طفلتيهما، بمشاركة ضرتها «هالة»، الأب يسجل عملية القتل كاملة على تليفونه الخاص خطوة خطوة، الأم بمساعدة ضرتها تخنقان الطفلتين واحدة تلو الأخرى فى البانيو بعد تكتيفهما، الغريب أنهم عاودوا الجريمة لرضيعهما الثالث «محمد» بنفس الطريقة غرقاً ليلحق بشقيقتيه.
فى أغسطس العام الماضى أول أيام عيد الأضحى المبارك، بمدينة ميت سلسيل دقهلية، يلقى الأب محمود نظمى بطفليه «محمد خمس سنوات وريان سنتين» فى البحر الصغير بناحية فارسكور «أحياء»، يموتان غرقاً ولا يتحرك ضميره ولا يرتجف قلبه، ثم يغمض عينيه وينام دون أن تطارده صورهما البريئة فى أحلامه، الأب يصطحب ولديه بعد صلاة العيد إلى مدينة فارسكور لتنفيذ جريمته، فى نفس التوقيت أم فى محافظة المنيا فى قرية صفط الخمار تلقى بطفليها «محمد» خمس سنوات «وهانى» ست سنوات فى ترعة البحر اليوسفى بعزبة الشيخ عيسى.
جرائم الآباء والأبناء والمحارم، سواء قتل أو تعذيب لأطفالهم، ظاهرة تستحق الدراسة، ولا يمكن تصنيفها تحت عنوان جرائم جنائية فقط، بل هى جرائم نفسية، يستدعى الأمر البحث والإبحار فى تاريخ هؤلاء الشواذ، طفولتهم مراهقاتهم تعليمهم تربيتهم سلوكياتهم لمعرفة مواطن الخلل التى أصابت غريزة الأمومة والأبوة فى مقتل وهلكتها ودمرتها، فتحجرت قلوبهم، وماتت رحماتهم، وتقطعت محارمهم.
هل لغياب القيم المجتمعية العامة واستبدالها بقيم فردية سبب فى هذا الخلل؟ نعم وهذا جد خطير، وقبلها نقول: لا نستبعد الرغبة فى الانتقام، وهو أمر فطرى ومقبول أحياناً إذا كان معتدلاً ومتساوياً ومتماثلاً، خصوصاً فى ظل غياب القانون أو المماطلة والتسويف فى رد الحقوق والمظالم لأصحابها، كأن تتعمد الأم حرمان الأب من رؤية أطفاله إذا ماطلها فى سداد النفقة أو امتنع عنها، إلا أن ينسحب إلى الأطفال وتعذيبهم وقتلهم فهذا مرض وخلل نفسى، ولا نستبعد أيضاً الحالة الاقتصادية وتدنيها عند هؤلاء وارتفاع سقف وطموحات ورغبات الأبناء، وعجز الآباء والأمهات عن تحقيقها، وكان انسحاب أحدهما من مواجهة الحياة وترك الآخر يصارعها وحده عملاً خسيساً وحقيراً ووصمة عار، إلا أنه فى مواجهة هذا الوافد الجديد من تعذيب أو قتل، فهو شرف نستعيده ونقبله، كما نقبل الرمضاء عن النار.
ونعود إلى السؤال عن «القيم المجتمعية العامة واستبدالها بقيم فردية خاصة»، وهو أخطر هذه الأسباب، هى الرقيب المجتمعى على تصرفات الناس، صناعة محلية مجتمعية تصوغها المجتمعات وتنقيها وتوجهها الدولة بحرفية، وتجعلها مقبولة برضا وليست بالإكراه أو الإجبار، القيم المجتمعية كتاب مفتوح يقرأه الناس صباح مساء، اعمل كذا ولا تعمل كذا، هذا خطأ وهذا صواب، مرجعية مجتمعية فى ردود الأفعال المنظمة والمقبولة، عمل متناسق ومتناغم وعام يعمل به الجميع عن رضا، وغيابها يعنى ضياع العمل الجمعى المنظم، ويصبح لكل فرد تصرفه ورد فعله الخاص، فإذا كان جاهلاً حرم نفسه من نعمة العلم الجمعى، وإذا كان عصبياً حرم نفسه من متعة الاتزان الجماعى، غياب القيم المجتمعية، غياب الصدق والإيثار والكرم والسخاء والبذل والتعاون والتكافل الاجتماعى والرضا والقناعة، وهى ثوابت مجتمعية متعارف عليها، أسوار عالية تحاصر الجميع، رقيب على تصرفات الناس، وعين المجتمع الذى يلاحظ الجميع ويعدل ويقوى ويقوم، فإذا ما خالف أحد أشار المجتمع إليه بالمخالفة ولسان حالهم يقول «أصلح نفسك» فيعود إلى نظامه وإلى خطه مع الجميع، ونلاحظ هذا فى المجتمعات ذات القيم المجتمعية المحددة والصائبة، المخالفات والأخطاء فى الشارع يصوبها الناس فى وقتها دون حرج أو إذعان، وقبول فورى يصاحبه إصلاح واعتذار، عكس مجتمعاتنا الكل يخالف ويعادى وينتقم، ولا يستطيع أحد أن يوجه أو ينتقد لسبب بسيط، ليس لدينا هذه القيم المجتمعية العامة والشاملة والمحددة والمقبولة.
نحن فى حاجة إلى عودة هذه القيم مرة أخرى، نفصلها ونغرسها فى الأجيال المقبلة، هى الرادع والرقيب والمصحح لأخطاء الناس، وكتاب مفتوح للجميع لردود الأفعال، لا يمكن أن نترك الناس على هواهم، يتصرفون فى المواقف دون مرجعية عامة وقيم مجتمعية ثابتة ومصانة.
نقلا عن الوطن