د. جمال عبدالجواد
لو قدتَ سيارتك أو تمشيتَ في شارع الخمسين في منطقة زهراء المعادي فسيلفت نظرك ذلك الصرح الضخم، أقصد بذلك الكنيسة المقامة على إحدى النواصي الرئيسية في الشارع الكبير. لا أعرف اسمًا لهذه الكنيسة، ولا أظن أن أحدًا، بخلاف المترديين عليها، يعرف اسمها؛ لكن أهل الحي، وعمال الديلفري وسائقي التاكسيات يسمونها الكنيسة وكفى، ويستخدمونها علامة رئيسية لوصف مواقع المنازل والمحلات.
على بعد حوالي 200 متر من الكنيسة، وعلى نفس الصف من الشارع المتقاطع مع شارع الخمسين، يوجد صرح كبير آخر لمسجد جميل، أطلقوا عليه في البداية اسم السيدة زينب، قبل أن يسموه مسجد الرحمة، وإن كان الناس يكتفون بالإشارة إليه بكلمة "المسجد"، باعتباره المسجد الكبير والوحيد في المنطقة.
وجود المسجد والكنيسة متجاوران يشهدان على السماحة والتعددية وحقوق المواطنة والوحدة الوطنية التي تميز هذا البلد. ويشهد للسياسة الحكيمة التي تتبعها الدولة، بإتاحة بناء الكنائس في الأحياء والمدن الجديدة، بعد أن كان هذا أمرا صعب المنال في عهود سابقة. وفي الليل عندما تضاء أنوار المسجد والكنيسة يمنح الصرحان لمشهد الأفق في الحي الجديد مهابة محببة، حيث يمكن رؤية الصرحين الكبيرين من مسافات بعيدة في جميع الاتجاهات، بسبب الخلاء الكبير المحيط بهما، فالمنطقة جديدة، وما زال أغلب أرضها خلاء ينتظر التعمير.
بجوار الكنيسة مباشرة توجد مدرسة حكومية تجريبية، اختار لها موظفو التربية والتعليم اسما هو السيدة خديجة، فأصبح اسمها بالكامل مدرسة السيدة خديجة الرسمية المتميزة للغات. اختيار السيدة خديجة رضى الله عنها اسما للمدرسة شيء جميل، لكنني أظن، وإن بعض الظن إثم، أن هذا الاختيار لم يأتِ مصادفة، وأن اختيار اسم له طبيعة دينية إسلامية هو قرار تأثر بوجود المدرسة مجاورة للكنيسة؛ فبعض الناس، بمن فيهم موظفون في الحكومة، لا يرتاحون لرؤية رموز دينية غير إسلامية في المجال العام، ويسعون لتأكيد هويتهم وغلبتهم العددية بنشر رموزهم الدينية المميزة لمنافسة رموز الآخر الدينية.
الغالبية من المصريين هم من المتدينين، لكن بعض هؤلاء يكتفي من الدين بمظاهره، وبعضهم الآخر يشغل نفسه باحتلال الفضاء العام والمجال البصري المشترك بين كل الناس مستخدما رموز ومظاهر دينية، معتبرا هذا جزءا من التدين ومظهرا له. إنها الروح الطائفية البغيضة التي تأبى إلا أن تتسلل إلى العقول والنفوس من أي ثغرة تترك بغير حماية.
ربما كانت تسمية المدرسة باسم السيدة خديجة رضي الله عنها مجرد صدفة، فتصبح مدرسة السيدة خديجة بذلك دليلا إضافيا على الوحدة الوطنية. لكن مؤخرا ظهر في أقصى ركن من أركان فناء المدرسة، وهو الركن الأقرب للكنيسة الكبيرة مصلى، ولم لا، فلا بد من توفير مكان مخصص لصلاة التلاميذ الصغار. لم يكن بإمكان المارين في الشارع التعرف على المصلى المبني داخل المدرسة إلا بسبب القبة الكبيرة التي تم بناؤها فوق المصلى، والهلال الذي تم تثبيته على قمتها، في مشهد غير معتاد في المصليات المقامة في المدارس، وبحيث أصبحت الكنيسة محاطة بالمساجد من جانبين، في دليل على أن وحدتنا الوطنية تتعرض لضغوط ومخاطر بسبب العقول الصغيرة التي أقحمت نفسها في حرب الرموز الدينية. إنها نفس العقلية التي أنتجتها سنوات شاع فيها التطرف، وفيها كان المتطرفون يطلبون من أنصارهم تضييق الطريق على أهل الكتاب، مستعينين في ذلك بحديث مدسوس على النبي الكريم.
الحرب على التطرف والإرهاب ليست فقط تلك الحرب الجارية في سيناء، ولكنها حرب مجالها العقول والنفوس والثقافة والرموز، ولا بد من فتح العيون وملاحظة تلك التفاصيل الصغيرة التي يتسلل من خلالها المتطرفون.
نقلا عن مصراوي