عاطف بشاي
تزخر الحكم والأقوال المأثورة فى التراث المصرى بالسخرية المرة والتفكه اللاذع والتنكيت والتبكيت الحاد حول الفقر والفقراء وضيق ذات اليد.. وشظف العيش.. وذلك التناقض الصارخ بين أحوال البؤساء من المعدمين والمطحونين وبين الأغنياء المترفين.. فالفوارق الطبقية الشاسعة وانعدام العدالة الاجتماعية هما المداد الذى يشكل عبارات المتفكهين الساخرين.. ويصبغ كتاباتهم وأشعارهم ورسومهم وكافة فنونهم بنبرة حزينة متفلسفة «وكم بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء».. وتقول الأمثلة الشعبية «الفقير إذا ركب الجمل يعضه الكلب» و«نعجة الفقير لا تسمن».. «الغنى غنوا له.. والفقر عزوله».. ويدفع الغنى الغرامة بماله والفقير بجلد ظهره.. وزى صيارف الريف يعدوا بالألفات ويناموا على الانخاخ.. و«زى ضرابين الطوب.. يعد بالألفات وينام على الابراش.. وناس يأكلوا البلح وناس يترموا بنواه».. و«نطرت على بتاع الملح.. غنى بتاع القلقاس قال أهى جت على ناس ناس».. ومن الأقوال المأثورة «المال يستر رذيلة الأغنياء والفقر يغطى فضيلة الفقراء».. و«عندما تصل المعيبة إلى ركبة الغنى.. تكون اجتازت رقبة الفقير».
إنها إذا السخرية النابعة من «المفارقة» والتى وصف «موريس هندوس» الروائى الروسى بها مصر بـ«أرض المتناقضات» وأوردها الباحث والأديب «مصطفى عبيد» فى كتابه الممتع «هوامش التاريخ».. وهى سخرية موغلة فى التاريخ، فالفنان المصرى القديم استخدم العديد من الرموز مثل القط الذى يقوم على خدمة الفأر الذى يرتدى ملابس الأشراف.. أو مجموعة الفئران التى تهاجم قلعة القطط..
فالمفارقة الاجتماعية والسياسية هى الأداة الرئيسية لتفجير الضحكات الساخرة.. بل هى جوهر الصراع فى البناء الدرامى للكوميديا فى المسرح منذ «موليير» والسينما منذ «لورين وهاردى»
وفى العصر الحديث ظهر الشاعر الموهوب «عبدالحميد الديب» (1943 – 1989) وسط جيل العباقرة الكبار من الأدباء والشعراء أمثال «شوقى» و«حافظ» و«العقاد» و«طه حسين».. ولكنه كان صعلوكًا فقيرًا بائسًا بلا عمل وبلا مأوى ينام على أرصفة الشوارع وفى المساجد والحدائق العامة ويرتدى ملابس رثة ويهجو فى شعره العنيف – الذى كثيرًا ما كان بذيئًا – كل من تقابله فيقول مثلًا فى بعض رجال الأدب والصحافة من معاصريه:
«يا رجال الشعر والفن الرصين ألعن الله أباكم أجمعين»
وقد عبر عن بؤسه وشقائه مردداً:
دعك من الزمان إذا تنكر
وهام بى الأسى والبؤس حتى
كأنى عبلة والبؤس عنتر
وقد سقط «الديب» ضحية إدمان الكوكايين الذى دمر أعصابه وأهلك صحته النفسية والعقلية بل أهلك كيانه كله فانتهى به إدمانه إلى السجن ثم إلى مستشفى الأمراض العقلية.. وتوفى فى مستشفى قصر العينى إثر انفجار فى الشرايين.. ويؤكد الناقد الكبير الراحل «رجاء النقاش» انه لولا الإدمان لكان للديب شأن كبير فى تاريخنا الأدبى المعاصر.. ولأصبح واحدًا من أكبر شعراء العرب فى القرن العشرين..
والمدهش أن فى حالة «الديب» أن ضعف إرادته فى مواجهة بؤسه وعدم قدرته على تجاوز ظروفه المعيشية البائسة والذى أسلمه إلى الإدمان.. ما لبث أن حوله إلى شخصية «مازوكية» و«المازوكى» هو من يستعذب الألم وإيذاء النفس.. بل يسعى إليه.. فقد استسلم «الديب» إلى استمراء الناس وترحيبهم بقصائده التى يتحدث فيها عن البؤس والشقاء وظلم الأقدار وغدر الأيام وبشاعة الحاضر وظلام المستقبل وإحساسه بالغبن والاضطهاد.. وسوء ظنه بالناس وهجائه لهم بل ازدرائه لنفسه، وأفصح عن ذلك فى مطلع قصيدة له يقول فيها:
وقد ساء ظنى بالعباد جميعهم / فأجمعت أمرى فى العداء وأجمعوا..
يقول فى ذلك «رجاء النقاش» فى كتابه «عباقرة ومجانين»: وصل الشاعر إلى حالة من الرضا الخفى بمصيره البائس فقد أصبح مشهورًا بين المشتغلين بالأدب والصحافة فى عصره بهذه الشخصية الخاصة التى تعيش فى بؤس وتشرد وتجد فى ذلك مصدرًا للإلهام الشعرى، حيث كان الكثيرون يستمعون إلى قصائده.. ويتخاطفونها وينتظرون منه دائمًا أن يكتب فى هذا الموضوع الواحد والأساسى.. وهو البؤس والشكوى من الناس والحياة.. ولهذا أصبح «الديب» يمثل دورًا نجح فيه كل النجاح وأصبح الناس لا يتصورونه فى غير هذا الدور الناجح المحدد، والذين كانوا يساعدونه ببعض المال آثروا أن تكون مساعدتهم قليلة ومحسوبة حتى لو كانوا قادرين على أكثر من ذلك بكثير.. وكان السبب الكامن وراء قلة المساعدات هو أن يبقى الشاعر فى دوره المرسوم له.. وهو دور البائس الضائع التعس.. فتلك هى الصورة التى يرضاها الناس ويستمتعون بها.. وذلك هو الدور الذى استسلم له الشاعر وأتقنه حتى أصبح علامة عليه ومصدرًا لتفرده بين شعراء عصره وأدبائه.
نقلا عن المصرى اليوم