أمينة خيري
رجلان في أوائل السبعينيات من العمر، على درجة بالغة من الثقافة والرقي (ولا أقول الثراء). يتحدثان حديث الساعة.
قال أحدهم مستنكرًا: ثورات إيه؟ هي الثورة دي حاجة سهلة كده؟ نصحى من النوم فنقرر نعمل ثورة بدل ما نخرج نقعد على القهوة أو نروح الشغل؟ يرد الآخر: تفكير ساذج وناضب.
انضباط الحديث الدائر لم يكن سببه تراكم خبرات الرجلين أو تعقل تفكيرهما فقط، لكنهما تلقيا تعليمهما الحكومي في زمن ما قبل انهيار جانب من التعليم منذ سبعينيات القرن الماضي، وتحول جانب آخر إلى معاهد داعشية.
"هذا الزمن أثمر شبابًا بالغ الطموح متمكنًا تمامًا من الإنترنت ومفاتيح عصر تقنية المعلومات، لكن الكثير منهم منزوعو المضمون الثقافي، أيتام نتيجة هجرة الأهل إلى الخليج لاكتناز المال واستيراد الثقافات، يحملون مشاعر مزيجًا من غضب الشباب وعنجهية ناجمة عن شعورهم بامتلاك مفاتيح "المعرفة" العنكبوتية.
يرى الرجلان أن هؤلاء "الأحفاد" مساكين؛ ويستحقون أوضاعاً معيشية أفضل من المتاحة، لكنهم مثل الدب القادر على قتل صاحبه ونفسه بقلة الخبرة واقتصار المعرفة على منصات افتراضية على الرغم من أهميتها.
هذا الجيل الذي خرج إلى الحياة في غفلة من السياسة والخدمات والتعليم والثقافة والرعاية والتنشئة، ولم يجد سوى حائطي صد: الشبكة العنكبوتية بثرواتها الهائلة، والإسلام السياسي والاتجار بالدين بدهاليزهما المميتة.
واليوم تمضي محاولات الإصلاح قدمًا. لكن ما انكسر في خمسة عقود لا ينصلح حاله في خمسة أشهر أو سنوات. صحيح الوضع ليس مثاليًا، والهموم كثيرة، والمشكلات متواترة. لكن قليلًا من الوعي لا يضر، وبعضًا من التعقل يفيد. والهبد والرزع يضران الجميع ويضمنان الخروج بأكبر خسائر للجميع، وهذا ما تسعى إليه أطراف وجماعات ودول عدة.
والمطلوب ليس تطبيلًا أو مزايدة أو دقًا مستمرًا على المحاسن والمميزات. كل المطلوب قدر من التعقل والمتابعة التحليلية. ويكفي أن البعض ممن بدوا لنا بالأمس القريب مناضلين ومثقفين وواعين بقواعد العلوم السياسية وملمين بأسس العلوم الاجتماعية يتشبثون اليوم بأوهام وخيالات، والبعض الآخر ممن فشل في ضمان قطعة من الكعكة بات ينهش في قلبها غير عابئ بسكانها. ليس المطلوب انبطاحًا أو تعاميًا عن مطالب وحقوق، لكن المطلوب التدقيق.
الجيل الذي سقط سهوًا من حسابات عهد سياسي مضى يحتاج كل الاهتمام والرعاية. هذا الجيل متنوع، فمنه طبقة سائقي التوك توك وعشاق المهرجانات الذين يستاء منهم البعض لعشوائيتهم الفكرية والمظهرية رغم أنهم ضحايا. ومنه طبقة متعلمة ومثرية لا تعي من أمرها شيئًا إلا مصالحها الضيقة وحياتها المغلقة على نفسها حيث حياة موازية لتلك السائدة في البلاد.
ومنه من ظن أنه صار أبا العريف وأمّه لتمكُّنه من مفاتيح عصر تقنية المعلومات. وكل من سبق ضحايا عهود مضت. ويظل هناك بالطبع من نجا بنفسه أو نجت به ظروفه ليصبح شابًا أو شابة صحي التكوين متكامل التفكير.
التفكير في كيفية الرد على ما تتعرض له مصر من محاولات تخريب أو تحليل أسباب اهتمام وسائل إعلام دولية كبرى بهذه الفيديوهات اهتمامًا يفوق الاعتداءات والتصعيدات في السعودية، والانتخابات الرئاسية في تونس، وانتخابات إسرائيل، وبريكست بريطانيا- يجب ألا يجرفنا بعيدًا عن ثلاث نقاط مهمة:
الأولى: إن ما نعيشه الآن يحتاج إعلامًا مختلفًا تمامًا عن الموجود على الساحة شكلاً وموضوعًا.
الثانية: إن الحالة المثارة على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تٌبذَل فيها جهود عاتية لجرنا إلى حالة من الفوضى يمكن أن تتكرر مراراً وتكراراً والمطلوب محو الأمية العنكبوتية.
الثالثة والأخيرة: ضرورة وضع العنصر البشري المصري على رأس قائمة الأولويات.
نقلا عن مصراوى