عاطف بشاي
يمثل أنيس منصور نموذجًا فريدًا فى الثقافة المصرية الحديثة.. فهو أديب عميق ومتفلسف عميق.. ومبدع أريب.. وكاتب صحفى مثير للجدل.. وحكاء لا يبارَى وله مؤلفات عديدة يسجل فيها حكاياته الطريفة التى تتسم بالسخرية اللاذعة.. والمفارقات الكوميدية التى لا تخلو من العمق.. والنفاذ إلى الأبعاد النفسية المدهشة لسلوك شخصيات من كبار الأدباء والفنانين والفلاسفة عرفهم عن قرب منهم عباس العقاد.. توفيق الحكيم.. عبدالوهاب.. طه حسين.. كامل الشناوى.. ممدوح الليثى.. عبدالحليم حافظ.. فاتن حمامة.. وسجل تلك المواقف والحكايات الممتعة فى كتبه ومنها.. «فى صالون العقاد كانت لنا أيام».. و«الكبار أيضًا يضحكون».. و«لعلك تضحك» الذى فيه كتب فصلًا عن شخصية الأستاذ ممدوح الليثى.. جذبنى فيه ملاحظة ذكية يؤكد من خلالها أنه ضابط بوليس سابق ما زال يتصرف كضابط بوليس.. ولكن بدرجة رفيعة المستوى.. فهو لا يتحدث إليك وإنما هو يحقق معك.. فالطبع يغلب التطبع والتطبيع.. تسأله سؤالًا فيرد عليك بعشرة أسئلة.. وهو لا يتصنع ذلك وإنما هو طبع ضابط البوليس الذى لم يعمل إلا وقتًا قصيرًا جدًا.. كل شىء فى ممدوح الليثى قد تغير من الداخل والخارج ولكن ظل ضابط البوليس موجودًا فى أعماقه لم يتم الإفراج عنه.
والحقيقة أن ضابط البوليس الذى ظل قابعًا فى أعماق السيناريست الكبير والإدارى العظيم الذى سعى لأن يكون مشروعه الإدارى لخدمة الفن المصرى كبيرًا يشار إليه بالبنان والذى بدأ بإحياء أفلام التليفزيون بعد موتها ورأس قطاع الإنتاج فى عصره الذهبى.. وساهم بسخاء فى تشييد مدينة الإنتاج الإعلامى وقدم من خلال جهاز السينما أفلامًا بالغة التميز.. وأقام منذ الثمانينيات صرحًا دراميًا فريدًا لمبنى شاخ وترهل وبهت وسطح فأعاد له البريق والألق.. والريادة.. فمن ينسى «ليالى الحلمية» و«رأفت الهجان» و«لا».. و«دموع صاحبة الجلالة».. و«بوابة الحلوانى» و«حضرة المحترم».
سلوك هذا الضابط هو أحد مفاتيح شخصيته المدهشة التى أزعم أنها واحدة من أهم أسباب نجاحاته وإنجازاته المبهرة.. فقد كان يصحو من نومه فى الفجر مع العصافير.. ويبدأ عمله فى السابعة تمامًا بهمة ونشاط ودأب وحيوية ضابط.. ملتزمًا بمهام محددة بتوقيتات صارمة لا تهاون فى تجاوزها- لا تنتهى قبل منتصف الليل فى تواصل لا تتخلله إلا راحة قصيرة يأكل فيها ساندويتش.. أو يغفو على فوتيه وهو جالس إلى مكتبه.. بعين نصف مغمضة ونصف مفتوحة.. ويد جاهزة فورًا لرفع سماعة تليفون يرن إلى جواره.. فيرد على الاتصال فى الحال بنفسه دون الاستعانة بسكرتيرة وبصرف النظر عن قدر وأهمية المتصل به فهو يرد على كومبارس بسيط مثلما يرد على وزير.. ويمارس عمله «بمركزية» واضحة ليس بدوافع ديكتاتورية آمرة.. ولكن لقلق عاصف ورغبة مخلصة أن يطمئن قلبه إلى كل كبيرة وصغيرة متصلة بمسؤولياته الضخمة المتعددة.
وكان يجيد استخدام سلطة «المستبد العادل».. فمنذ اللحظة الأولى لتعيينه رئيسًا لقطاع الإنتاج.. اختلف مع نائبه فى ذلك الوقت المخرج «يحيى العلمى» فى أسلوب إدارة القطاع.. وهوى بقبضة يده على مكتبه وهو يصيح فى انفعال بالغ ونبرة قاطعة: أنا رئيس القطاع وكلمتى هى النهائية.. ومن لا يعجبه طريقة إدارتى فعليه الانسحاب فورًا.
وقد كان فى حسمه للأمور يقتنع بمبدأ يردده دائمًا: أنا إما أن أتزوج وإما أن أطلق.. فهو لا يؤمن بأنصاف الحلول ويقدم نموذجًا فريدًا فى الدقة والانضباط والحرفية والحزم.. لا يضيع وقته فى قضية خاسرة.. ويكره الخاسرين.. وبدأ وقتها فى ممارسة هوايته الأثيرة فى اختيار النصوص بنفسه والاتصال بالروائيين الكبار والإسراع فى التعاقد معهم.. ومع كتاب السيناريو المميزين وعيونه اللاقطة تميز بين الصالح والطالح.. الغث والسمين... فكانت لديه قدرة فائقة على الفرز الحاسم والسريع بين الموهبة والادعاء.. ورغبته الوثابة فى تحقيق نجاحات متوالية لم تسمح بوجود المدعين والطبالين والمنتفعين وأنصاف المواهب والمتسلقين والأرزقية وطردهم من إمبراطوريته بقسوة لا تخلو من إهانة.. وكان يوكل لمديرة مكتبه مهمة تصفية وغربلة المتعاملين مع القطاع فحجبت عنه هؤلاء المتسلقين وفاقدى الموهبة.. وحافظت له على وقته الثمين لاستثماره فى التعامل مع المجيدين الموهوبين.
وأذكر أنه فى إحدى المرات- وكنت فى مكتبه- أن أوصلت له السكرتيرة عن طريق الخطأ تليفونًا من ممثلة لحوحة ضعيفة الموهبة لا تكل ولا تمل من مطاردته لترشيحها فى أعمال القطاع.. والخطأ جاء بسبب تشابه اسمها مع ممثلة أخرى معروفة ولها مكانة كبيرة.. فاستدعى كل العاملات فى السكرتارية وأوقفهن صفًا فى مواجهته.. وردد فى حسم: الغلطة دى لو اتكررت من نفسكم تروحوا بيوتكم.
وفى مرة أخرى.. وفى أثناء مرور «بوليس» مفاجئ على مكاتب موظفى القطاع لمح ممثلة تجلس فوق مكتب أحد المديرين فى غير وجوده منتظرة.. فطردها من المكتب وأغلقه بالمفتاح من الخارج.. رافضًا أن يدخل المدير إلى حجرة مكتبه مرة أخرى ونقله فى نفس اليوم إلى وظيفة أدنى من درجته بالمخازن عقابًا له.
لم تكن تلك التصرفات التى قد يراها البعض تتسم بالحدة أو الغلظة يلجأ إليها إلا بدافع المصلحة العامة حرصًا على الانضباط واحترام العمل.. لكنه فى حقيقة الأمر- فى الوقت نفسه- كان متواضعًا كريم الخلق تظهر سجاياه تلك فى موضعها المناسب.. أو كما يقال «لكل مقام مقال» فقد رأيته مثلًا يقبل رأس ممثل كبير ويعتذر له حينما دخل مكتبه ثائرًا يتهم مخرجًا بترشيحه فى دور هزيل لا يليق به.
نقلا عن المصرى اليوم