نوال السعداوي
سافرت كثيرا، وصادقت نساء ورجالا من جميع البلاد، فى القارات الخمس، وأدركت أن الإحساس بالغربة هو إحساس عالمى عام. ربما يصح أن نتكلم عن «عولمة الغربة». منذ طفولتى وأنا أفتح عينى على وجوه أمى، وعماتى، وخالاتى، ملامح فقط.
الأصوات التى أسمعها هى أصوات الرجال، يتكلمون دائما وبصوت مرتفع، والنساء صامتات، يستمعن إلى الرجال وفى عيونهن بريق منطفئ، يشبه الألم أو الحزن العميق الممتد عبر السنين.
لم أكن أعرف الكلام بعد. ولا أعرف كلمة ذكر أو أنثى. لكن من عيون أمى، وجدتى عرفت أننى مثلهن، وأننى أنتمى إلى جنس هامشى، ليس له قيمة الجنس الآخر، الذى يسمونه «الذكور». قبل أن أعرف الفرق بين الأنثى والذكر، شعرت بالغربة، وأننى أعيش فى عالم تنكمش به الإناث داخل ملابسهن، وداخل المطبخ، وداخل غرفة النوم. ويخرج جدى إلى العالم الخارجى، ويخرج أبى. يخرج الرجال من البيت إلى عالم آخر واسع لا تعرفه أمى، ولا تعرفه جدتى (أم أمى) ولا خالاتى شقيقات أمى، إلا شقيقة واحدة اسمها «فهيمة» كانت تخرج من البيت إلى المدرسة. عيون الرجال كانت تنظر إلى خالتى، وهى تخفى صدرها بحقيبة يدها، كأنما العيون قادرة على اختراق ملابسها، وكمسارى الترام يرمق المرأة الفلاحة بازدراء حينما فكت بأصابعها عقدة المنديل وأخرجت الملاليم، وبدأت تعد له ثمن التذكرة بأصابعها السمراء, مشققة الأظافر، وسوداء مثل أصابعها. حينما أتحدث عن إحساسى بالغربة فى هذا العالم، لا يمكن أن أنسى تلك المشاهد. إنه عالم عبودى عنصرى شديد التفرقة بين الأغنياء والفقراء، بين الرجال والنساء، بين أصحاب الوجوه البيضاء وأصحاب الوجوه السمراء. ويتضاعف إحساسى بالغربة، حينما أجد نفسى فى حفل كبير، ترتدى النساء فيه الملابس الغالية والفيرير والجواهر، وأنا أرتدى ملابسى البسيطة العادية، بلا خواتم
فى يدى ولا أساور، ولا ماكياج على وجهى، وشَعرى مرسل بطريقة عادية، وحذائى عليه غبار الطريق. وأشعر بالغربة حينما أجد نفسى فى اجتماع رسمى، على مستوى عال، يجلس إلى جوارى رجال من الوزراء، أو المسؤولين فى مناصب مهمة فى جهة ما، ربما الأمم المتحدة، أو ما شابه، أو أدباء وصحفيين، ونقاد، أشعر بالغربة حينما أسمعهم يتكلمون، يستخدمون لغة عربية، بطريقة واحدة، اصطلحات وأكلاشيهات واحدة، رابطة عنق شكلها واحد، حركة أعناقهم واحدة. أبحث فى الكتب عن معنى الغربة. معظم الكتب بأقلام الرجال، انشغلوا بغربة الرجل من المحكومين من الفقراء أو العمال، الأجراء، داخل نظام يسرق عرقهم وجهدهم، يحولهم إلى آلة فى الحقل أو المصنع أو المكتب. تحدث الغربة بين الرجل، وما تصنعه يداه، ينظر إلى ما ينتجه، ولا يعرف أين يذهب. لكن هذا الرجل، يجد فى بيته زوجة تنتظره، تعتنى به نفسيا، وجسديا، فتخفف وطأة الغربة. وهذا لا يحدث مع المرأة، التى تشعر بالغربة فى مكان العمل، حيث لا أحد فى البيت يخدمها ويرعاها، ليخفف غربة العمل. إذن غربة النساء مضاعفة عن الرجال. فى طفولتى، كنت أرى الأطفال وأسمع أصواتهم من نافذة المطبخ، ومن بينهم أخى، يلعب ويمرح وضحكته تملأ الكون، وأنا واقفة أمام النار أطبخ له الطعام، مع أننى أشطر منه فى المدرسة، هو يرسب وأنا أنجح. منذ الطفولة أدركت العلاقة بين الظلم، والإحساس بالغربة. سافرت خارج مصر، ازدادت غربتى. ما إن أتكلم اللغة العربية حتى ترمقنى العيون بنظرة غريبة، وبشرتى السمراء تزداد سمرة وغربة بين الوجوه البيضاء. كأنما أنتمى إلى عالم آخر، يسمونه «العالم الثالث»، مع أننا نعيش فى عالم واحد. كلمة «الثالث» تخرج من بين شفاههم لها كثافة مادية، تنقلب الشفة السفلى الى أسفل، كأننى جئت من عالم سفلى. تزداد غربتى عن العالم، حينما أرى وجه دونالد ترامب، على شاشة التليفزيون فى غرفة نومى، يتحدث عن تشديد العقوبات على إيران، ويهدد بالتدخل العسكرى فى قلب طهران: «نستطيع دخول أى دولة فى العالم اذا أردنا». وقبله كانت تأتينى وجوه منْ سبقوه فى رئاسة الولايات المتحدة، وأسمعهم يقولون تهديدات مشابهة، فى صياغات مختلفة، أدت إلى حرب فعلية وقتل الملايين كما حدث فى العراق، تحت اسم حماية العالم من الأسلحة النووية. لكنهم يتجاهلون الترسانة الإسرائيلية المسلحة والنووية. أليست تشكل تهديدا للسلام العالمى؟ أليست ضد القوانين الدولية؟ أليست استمرارا فى إبادة فلسطين وشعبها؟ يشغلوننا بقضايا وهمية، ويصنعون عدوا وهميا، يضخمون فى خطورته لترويج بيع الأسلحة. المسافة بين البيت الأبيض فى واشنطن تتلاشى على شاشة التليفزيون، يصبح ترامب رئيس أمريكا جسما غريبا يقتحم غرفة نومى فى القاهرة، فى شبرا.
لم يعد العالم كما كان كبيرا. أصبح بحكم ثورة الاتصالات صغيرا مثل القرية الواحدة، يحكمها شيخ القبيلة الذكورى العنصرى الدموى، بالسلاح النووى والقتل الجماعى وتشجيع الفتن الطائفية، يجلس على العرش، مثل الإله، يطلب الخضوع من الجميع، ومنْ يرفع رأسه يُقطع على الفور، باسم حماية الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ونزع أسلحة الدمار الشامل.
نقلا عن المصرى اليوم