في إطار جهود الحكومة لإصلاح المعوج, وجه الدكتور مصطفي مدبولي في مستهل هذا الشهر بالبدء في برنامج لإحلال سيارات آمنة ومرخصة بدلا من التوك توك مثل سيارات الميني فان التي تعمل بالغاز الطبيعي, وأشار المتحدث باسم رئاسة مجلس الوزراء إلي أن رئيس الوزراء سيعقد اجتماعا قريبا مع مصنعي التوك توك لبدء تحويل خطوط إنتاجهم من التوك توك إلي الميني فان.
للوهلة الأولي يبدو أن الحكومة ترتدي ثوب المصلح, لكن الحقيقة أنها تكفر عن خطاياها المسكوت عنها والتي تركت تستفحل لسنوات, مثلها مثل سائر خطايا حكوماتنا حيث يتم غض البصر عنها في مهدها فتنمو وتتضخم حتي تخرج عن نطاق السيطرة, وعندما يصبح من العسير الخلاص منها تأتي الحكومة بالقرارات التي تبشرنا بها للإصلاح دون أدني اعتراف بمسئوليتها الجسيمة عنها.
يقولون إن التوك توك وسيلة مواصلات غير حضارية وغير مرخصة وتعيث فسادا في شوارعنا لأن من يقودها صبية غير مؤهلين ولا يحملون رخص قيادة!!!… ويقولون إنها بسبب ذلك الواقع تستخدم في ارتكاب جرائم يصعب علي الأجهزة الأمنية تعقبها والقبض علي مرتكبيها!!!… ويقولون إنها تستبيح السير في الشوارع الرئيسية وتسبب ارتباكا في المرور بالطريقة المنفلتة التي تمرح بها!!!…
لكن في المقابل هناك تساؤلات مهمة تبحث عن إجابات, وأولها: من المسئول عن هذا الواقع المريض المنفلت الفوضوي الذي ظهر في شوارعنا منذ أكثر من عشر سنوات ولم يبادر أحد بضبطه أو السيطرة عليه؟… والإجابة أن حكوماتنا المتعاقبة هي المسئولة ولولا تقاعسها وإهمالها التصدي لظاهرة التوك توك لما كنا في حاجة إلي التدخل اليوم بالبتر وإيهام الناس أننا ينبغي أن نطهر شوارعنا من تلك الظاهرة.
ولتصحيح المعلومات المغلوطة التي تلقيها الحكومة في وجوهنا لتبرير انتفاضتها المتأخرة للتكفير عن خطاياها, دعوني أقول إن التوك توك وسيلة مواصلات هادئة وخفيفة واقتصادية وحضارية يشيع استخدامها في بلاد كثيرة خاصة في منطقة جنوب وشرق آسيا حيث تخدم الطبقات الشعبية وتتمتع بالقدرة علي الحركة في الطرقات الضيقة والأزقة التي تستعصي علي سائر وسائل المواصلات الأخري… وفي هذه البلاد سيارات التوك توك تسير بشكل مشروع حيث يتم تسجيلها في إدارات المرور وتحمل لوحات معدنية ويتولي قيادتها سائقون مهرة مدربون يحملون تراخيص قيادة رسمية… علاوة علي أن القوانين الصارمة والرقابة اليقظة علي تطبيق القوانين تحدد خطوط سير التوك توك ولا تسمح أبدا بتجاوز تلك الخطوط أو التسلل خارجها إلي شبكات الطرق الرئيسية… وطبعا لأنها مرخصة وسائقيها مرخصون لا يجرؤ أي منها علي ارتكاب أية جرائم أو الضلوع في حماقات.
إذا الكارثة ليست في التوك توك لكنها في التهرؤ الإداري والتقاعس الحكومي عن اتخاذ اللازم في الوقت المناسب… ويجب أن نعترف أن الحاجة الشعبية هي التي أوجدت التوك توك بالدرجة الأولي لتلبية مطلب ملح نتج عن ظهور ونمو العشوائيات خارج الكردون العمراني للقاهرة والجيزة- ومدن مصرية أخري أيضا- حيث يبدأ الميلاد الفطري للعشوائيات ومع غياب التخطيط ومع الصمت الرسمي يتحول ذلك الميلاد إلي نمو سرطاني ويتمادي التقاعس الرسمي عن مواجهته حتي يفرض نفسه كواقع سكاني لا يمكن تجاهله ويصبح جزءا من هذا الواقع الأزقة والطرقات الملتوية الضيقة التي تستعصي علي الحركة الآلية ووسائل المواصلات الشائعة ويقتصر السير فيها علي الدراجات والدراجات البخارية وعربات الحنطور -والكارو- وهنا ظهر التوك توك كالمنقذ الذي يستطيع ارتياد تلك الأزقة لنقل السكان من الداخل إلي الخارج وبالعكس… وكان من الممكن رصد ذلك في مهده والمبادرة الرسمية بترخيصه وترخيص سائقيه وتحديد مناطق سيره, لكن شيئا من ذلك لم يحدث وأصبح الانفلات والفوضي وخرق القانون تهمة موجهة للتوك توك, بينما هي خطيئة تحاسب عليها الحكومة!!!
والآن تبشرنا الحكومة بإخراج التوك توك من السوق لتطهير شوارعنا من الشيطان وإحلال الميني فان محله وكأن الحكومة اكتشفت وسيلة مواصلات حديثة حضارية منزهة عن الانفلات والفوضي… هل تدري الحكومة أنها غافلة عن أن الميني فان يمرح في شوارعنا -وأعني بشوارعنا جميع طرقات وشوارع ومحاور الحركة الرئيسية وكباري القاهرة الكبري دون استثناء- منذ ما يزيد علي ثلاث سنوات؟.. هل تدري الحكومة أن الميني فان تم ومازال يتم ترخيصه في إدارات المرور علي أنه سيارات ملاكي ويحمل لوحات سيارات ملاكي, لكنه تسلل في غيبة الرقابة وبات يعمل في نقل الركاب أسوة بسيارات الميكروباص؟… لكن الفرق المقلق أن سيارات الميكروباص مرخصة كسيارات نقل للركاب بالأجرة وتحمل لوحات معدنية تعكس ذلك, بينما الميني فان يتخفي خلف لوحات ملاكي ويعمل بالأجرة وهو واقع ثابت في شوارعنا وفي حياتنا اليومية ويتم تحت بصر وسمع جميع المسئولين ورجال المرور… وبالطبع ما يفضح طبيعة نشاطه نفس سمات الرعونة والفوضي والانفلات في القيادة وإرباكه الحركة بالقفز بين السيارات وعدم احترام حارات المرور الأمر الذي يتيحه حجمه الصغير النحيف!!!
أي أن الفرق الوحيد المتوقع من مشروع الحكومة هو تطبيق حوافز تشجع ملاك التوك توك علي التخلي عنه واقتناء الميني فان الذي سيتم ترخيصه لنقل الركاب والتحقق من حمل سائقه رخصة قيادة رسمية… عظيم… ولكن ماذا ستفعل الحكومة في أسطول سيارات الميني فان التي ذكرتها والتي سبقت قرار الحكومة بسنوات وماتزال تعمل في نقل الركاب متخفية في ترخيص ملاكي؟… أيضا هل ستحدد الحكومة مناطق بعينها لعمل سيارات الميني فان وتحظر ارتيادها للطرق الرئيسية وتراقب ذلك بصرامة, أم ستترك الأمور علي انفلاتها؟… إذا كان إدخال الميني فان في الأصل ليحل محل التوك توك فينبغي ضبطه وتحديد خطوط سيره وتحجيم انفلاته مثلما كانت الحاجة مطلوبة إزاء التوك توك.
وأخيرا دعوني أكرر منعا لضياع الحقيقة… إذا نجحت الحكومة في إحلال الميني فان محل التوك توك بكل ما تعدنا به من سمات حضارية وقانونية تطبقها علي الميني فان ولم تكن تطبقها علي التوك توك, فهذا لا يعني أن الحكومة نجحت في إخراج شيطان التوك توك من السوق, إنما يعني أن الحكومة كفرت عن خطاياها وتقاعسها إزاء التوك توك ملتحفة برداء جديد أسمته الميني فان!!