فاطمة ناعوت
(هزمناهم، ليس حين غزَوناهم، بل حين أنسيناهم تاريخَهم) حكمةٌ عظيمة قالها الشاعرُ الإغريقىّ «سيمونيدس» مُحذِّرًا أبناءَ وطنه من نسيان هُويتهم، الذى سيكون معه الانكسارُ وضياعُ الغد. أظنُّ أن «خالد جلال» كان فى خاطره ذلك الخاطرُ الخطِرُ المخيف، وهو يرسم خطّة بناء مسرحيته الجميلة «سينما مصر»، التى ليست عملًا استعراضيٍّا راقيًا وحسب، بل درسٌ وطنىٌّ بليغ فى حتمية التمسّك بالجذور الماجدة واستعادة الذاكرة المنسية، من أجل تشييد غدٍ متحضّر، فالأمّةُ التى تنسى، أو تتناسى، تاريخَها، أمّةٌ محكومٌ عليها بالتيه والموات. تمامًا كالإنسان الذى يفقدُ ذاكرتَه، فيفقدُ غدَه. وماذا لو كان التاريخُ عظيمًا وعصيًّا على المحاكاة؟! هنا يُصبحُ النسيانُ جريمةً أخلاقية وخيانةً وطنية.
وهذا المواطنُ المصرىّ: «خالد جلال»، الذى قُدِّرَ له أن يكون مبدعًا وصانعَ مبدعين. وهذا وطنُه: مصرُ الذى قُدِّرَ له أن يكون ذا تاريخ عظيم، نسيه أبناؤه، أو كادوا. وقرّر المبدعُ أن يُنعش ذاكرتَنا حتى نستعيد من غياهب النسيان تاريخَنا الخالد العصىّ على التكرار، فاختار أشهرَ واقعة «فقدان ذاكرة» فى تاريخ السينما المصرية. «نادية» العروس الجميلة فى فستان زفافها تستعدُ لحفل عُرسِها، لكن غارةً جويّة من العدوّ الصهيونى أفقدها ذاكرتها مع زلزلة القصف، لتعيش شطرًا من عمرها فى ثوب فتاة أخرى لا تشبهها اسمها «فوزية». وجاء هذا العرض البديع «سينما مصر» لكى يساعد «نادية» على استعادة ذاكرتها المفقودة، لكى تخلع ثوب «فوزية» المهترئ، وترتدى من جديد ثوبها الأنيق الذى يليق بجمالها؛ ثوب «نادية برهان صادق»، انتبهوا إلى دلالة الاسم.
«نادية»، النادية النديّة هى: «مصر». وتاريخُها المنسىُّ هو «البرهانُ الصادق» على مجدها العظيم الذى غيَّبَه قسرًا، مع سبق الإصرار والترصّد، عصاباتٌ من الحاقدين، مثلما غيّب «شاكر» ذاكرة نادية لتصير فوزية، التى لا نعرفها ولا تعرفنا.
باقة مكثّفة وثريّة من المشاهد الأشهر والأجمل فى تاريخ السينما المصرية، أدّاها على خشبة المسرح سبعون شابّة وشابًّا، من نجوم الغد الموهوبين، فى عرض تخرّجهم فى قسم التمثيل بمركز الإبداع الفنى، بعد تتلمذهم على يد «صانع اللآلئ» المخرج الكبير «خالد جلال». فى تضفيرة إبداعية ذكية، خدّمت المشاهدُ المختلفة على تيمة ضخ الذكريات فى رأس «نادية» لكى تستعيد تاريخها، فتهمسُ فى إشراقات التذكّر: «أنا نادية مش فوزية»، الجملة الأشهر فى فيلم «الليلة الأخيرة» للعظيمة «فاتن حمامة»، والعظيم «محمود مرسى». وخلال رحلة البحث عن الهوية، لم يقف إلى جوارها إلا طبيبٌ مثقّف آمن بها وصدّقها، فى رمزية ذكية للنخبة التنويرية الواعية التى تُحاول استعادة هوية مصر من بين أنياب لصوص الهُوّيات سارقى الأمجاد.
فى المشهد الـ«Master Scene»، يتجمّع أعداءُ مصرَ حول النحيلة الحسناء «نادية»، ليعترفوا بحقدهم عليها وغيرتهم القاتلة من جمالها ونقائها وذكائها وتفوقها، والأخطر من «تاريخها» العظيم وريادتها للعالم فى غَبَش الأزمنة السحيقة.
«تعرفى يا نادية سحرتى كام واحد، وخلِّيتى عنيه متعلقة بيكى؟ كام واحد حبك واتغير وكبر وبقى مستحيل هزيمته بسببك؟! لو فضلتى جميلة وعايشة يبقى لازم أنا أموت. لازم تموتى عشان أفضل أنا عايش. لازم تبقى من غير ملامح، مجنونة ناسية سكرانة، عجوزة شريرة تافهة. حاولى تانى ترجعى نادية مش هاتعرفى، مش هاتقدرى. حاولت أخنقك، أخطفك، أسرقك.. ماقدرتش. فكان لازم أخليكى واحدة تانية مشوَّهة. يظهر انك مش عارفة مين عدوك، مش عارفة أنا مين!». ذلك المونولوج الذى قاله «شاكر»، الشرير سارق ذاكرة «نادية»، يختصر جميع تشوهات مصر التى ضربتها منذ سبعينيات القرن الماضى، منذ تبدّلت هويتُها وصارت مسخًا لا يليق بماضيها العظيم. لكن «نادية» أفاقت وقررت أن تعود إلى ذاتها، فقالت للعدو بحسم وثقة:
«أنا عارفة أنت مين. كتير زيك عدّى عليا؟ يتغير الشكل، اللون، اللغوة، الطريقة، لكن دايمًا الغرض واحد. وعمرك ما نلته ولا حد ناله. تعرف كام واحد حاول يموِّتنى وماقدرش؟ واللى قبلك كانوا أذكى وأشرس، تيران تعالب ضباع. لكن ييجوا لحد عندى ويستسلموا. أنا مش بموت يا شاكر. ولو قتلتنى، باتولد كل يوم من جديد زى الشمس. لا باموت ولا بانطفى. عشان أنا عارفة أنا مين. أقع وأرجع أقف من تانى. أنا عارفة أنا مين. عارفة اسمى وأرضى وولادى وجدودى وتاريخ ميلادى. مش هاتقدر تنسّينى عشان أنا عارفة أنا مين».
من العسير اختصار تحية الموهوبين أصحاب ذلك العرض الاستعراضى الرائع فى مقال كهذا. ومن العسير أن تشاهد ذلك العرض وتخرج منه دون أن تضربك النوستالجيا ويوجعك التذكّر ويُبهجك الأداء الفائق والإخراج العبقرى، فيصرخُ فيك چينُ العراقة ويُجبرك على المشاركة فى صنع مستقبل خالد يليق بذلك التاريخ الخالد. تحية احترام للمخرج الكبير وأبنائه الموهوبين. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم