الأنبا إرميا
تحدثنا بمقالة سابقة عن «الحاكم بأمر الله» (386- 411هـ) (996-1021م) ثالث خلفاء «الدولة الفاطمية» بـ«مِصر»، الذى بُويع صغيرًا فكان الحاكم الفعلى هو «الحسن بن عمار» شيخ «كُتامة» الملقب بـ«أمين الدولة» الذى كان فى صراع دائم مع «أَرْجَوان» كبير الخدم الوصى عليه. ثم انفرد بالحكم وهو فى الخامسة عشْرة آمرًا بقتل الواصيَين عليه؛ وقد امتلأ حُكمه بسفك الدماء!
ولا ينسى التاريخ أن زمان حكم «الحاكم بأمر الله» كان مثار جدل شديد؛ إذ شهد أمورًا متباينة وغريبة؛ فقد ذكر عنه «ابن الصابئ» اهتمامه بالاستماع إلى المظالم: «وكان «الحاكم» يواصل الركوب ليلاً ونهارًا، ويتصدى له الناس (يتعرضون له وهو مقبل طالبين توقفه) على طبقاتهم، فيقف عليهم ويسمع منهم؛ فمن أراد قضاء حاجته قضاها فى وقته، ومن منعه سقطت المراجعة فى أمره».
ومن مآثره أنه بنى «جامع القاهرة» («جامع الحاكم» ويقال له أيضًا «الجامع الأنور»)، ويقع بشارع «باب الفتوح» بالقاهرة، والذى كان قد بدأ تشييده والده «العزيز بالله» وأكمله هو. كذٰلك بدأ فى بناء «مسجد راشدة» عام 393هـ (1002م) مستغرقًا عامين تقريبًا. وعام 395هـ (1004م)، أسس «دار الحكمة» بالقاهرة التى عُرفت بـ«دار العلم»، ووضع فيها خزائن القصر من الكتب حتى ضمت قرابة مائة ألف كتاب.
لٰكن فى مقابل تلك الصورة، يذكر «ابن التَّغْرِى» عن العلّامة «أبى المظفّر بن قِزأوغلى»: «وكانت خلافته متضادة بين «شجاعة وإقدام» و«جبن وإحجام» (إعراض وكفّ)، و«محبة للعلم» و«انتقام من العلماء»، و«مَيل إلى الصلاح» و«قتل الصلحاء»! وكان غالبا عليه «السخاء» وربما «بخل» بما لم يبخل به أحد قط...»! وذكر «الحافظ أبوعبد الله الذهبى»: «وكان «الحاكم» يفعل الشىء ثم ينقضه.. وكان عجيب السيرة، يخترع كل وقت أمورًا وأحكامًا يحمل الرعية عليها؛ فأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع...»، كا ذُكر عنه أنه لبِس الصوف سبع سنوات بدل الملابس المذهبة التى للملوك؛ وفسر ذٰلك بعض الكتاب أنه نوع من الزهد. وقيل إنه امتنع عن دخول الحمام، وقضّى سنوات يجلس فى ضوء الشموع ليل نهار، ثم قضّى جالسًا فى الظلام زمنًا!
ويُعد «الحاكم بأمر الله» من أكثر الحكام إصدارًا للأوامر والمراسيم الغريبة: فمنع أكل «الملوخية» و«الجرجير» و«المُتَوَكِّلية» (أكلة كان مغرمًا بها الخليفة العباسى «المتوكِّل على الله»)، ونهى عن بيع الأسماك دون قشر وقتل جماعة باعوه مقشورًا بعد منعه، وأمر بقتل الكلاب، وحرّم شرب «الفُقّاع» (شراب من الشعير يخمَّر حتى تعلوه فُقّاعاته) وعمله وبيعه، وعام 402هـ (1011م) منع بيع العنب وأباد الكروم حتى خلت البلاد منه، وأمر بإراقة خمسة آلاف جَرَّة من العسل فى البحر خوفًا أن تُعمل نبيذًا، وعام 404هـ (1013م) منع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهارًا، والمشى بالأسواق، ونهى عن عمل الأحذية لهن، واستمر الأمر هٰكذا مدة سبع سنوات وسبعة أشهر حتى مات، وقيل عنه إنه منع صلاة التراويح عشْر سنين ثم أباحها.
وقد أمر بحرق «مِصر» («الفسطاط»): فيذكر «ابن الصابئ» أن العلاقات بينه وبين المِصريِّين آلت إلى التوتر فكانوا يدُسون له الرسائل ويختِمونها بالدعاء عليه وسبه! فتفاقمت الأمور حتى إنهم صنعوا تمثالاً لامرأة من القراطيس وألبسوها ثم وضعوها فى الطريق وبها رسالة كأنها تقدم مظلمة! فتقدم «الحاكم بأمر الله» وقرأ الرسالة وعرف أن المرأة ليست حقيقية وأنه سُخر منه؛ فأمر قادته وعبيده بحرق «مِصر» ونهبها وقتل أهلها! واستمر القتال بين العبيد والشعب ثلاثة أيام، وأُشعلت النيران فى أطراف البلد. وفى اليوم الرابع، انضم الأتراك إلى «المِصريِّين»، وازدادت الفتنة فى البلاد جدًّا؛ فأرسل إليه «كُتامة» و«الأتراك» يهددان بحرق «القاهرة» وإشعال الحرب؛ فلما وصلته الرسالة ركِب دابّته وأمر عبيده بالانصراف معطيًا أهل «مِصر» الأمان؛ فسكَنت الفتنة، وهدأت الأمور بعد أن احترق من «مِصر» ثلثها تقريبًا! و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم