هانى لبيب
لا يزال البعض يحارب «العلمانية» ويروّج لها باعتبارها ضد الدين، وهذا قول حق يُراد به باطل لكى نتقدم إلى الأمام ظاهرياً خطوة، ونعود إلى الخلف أميالاً وسنوات، فلا يزال فكر التكفير لمن يخالفنا منهجاً عند البعض، ولا يزال فكر المصادرة الفكرية توجهات عند البعض الآخر، بمن فيهم النخبة الفكرية والسياسية.
قرأت للفيلسوف المصرى القدير مراد وهبة فى العديد من المقالات ورأيته فى مؤتمرات يطرح أسئلة تحتاج إلى المزيد من التحليل الدقيق والتفكير المنطقى لكى نعرف ماهية ما حدث مع ابن رشد، وهو أهم فيلسوف عربى، بالنسبة لغرب يريد منا ألا نعرفه، أو من جانب تيارات دينية متشددة فى مجتمعاتنا نجحت فى القطيعة بيننا وبينه، أو بمعنى آخر، وحسب القول المأثور الدقيق لمراد وهبة: «ابن رشد حى فى الغرب.. وميت فى الشرق»، حى فى الغرب لأن جذور التنوير الأوروبى موجودة أساساً فى فلسفة ابن رشد، وميت فى الشرق الذى أهمل العقل فى مقابل الإيمان بالخرافات والخزعبلات.. إننا نباعد بين طرفين أحدهما «العقلانية» والثانى «الأصولية الدينية والتشدد الفكرى» الذى أصبح الغالب فى حياتنا.. أصوليات دينية (يهودية ومسيحية وإسلامية)، وأصوليات سياسية لا تقبل الاختلاف والتعددية وتلعب بالنار، من خلال التوظيف السياسى للدين، وأصوليات ثقافية تكرس للتكفير وترسّخ للمصادرة.. يتأرجح الفكر العربى عند د. مراد وهبة بين غالبية تتبع الغزالى وأقلية متأثرة بابن رشد، فضلاً عما يحتله ابن تيمية من مساحة لا بأس بها فى العقلية العربية، وهى مدرسة ترفض تماماً التأويل، وبالتبعية ترفض فهم النص الدينى على أساس البرهان العقلى، وما يترتب على ذلك من تشويه حقيقة الدين.. يتأكد مع مرور الوقت أن إعمال العقل فى النص الدينى للكشف عن المعنى الباطن للنص هو منهج لا يتعارض مع الفهم الحقيقى والعميق للنص الدينى، بعد أن حوّل البعض ما يُطرح للنقاش والاجتهاد على أرضية علمية إلى مواد تتناقض مع الدين، وهو افتراض متشدد ومتطرف ليس له أساس من الصحة.
د. مراد وهبة هو من أهم رواد «العلمانية» فى مصر حالياً، سواء على المستوى التنظيرى الفلسفى، أو على مستوى الفكر السياسى التطبيقى لها، فهو يطرح أفكاره دون خوف من المتطرفين بسبب إيمانه بها، وهذا أمر نفتقده الآن.. تتسم شخصية د. مراد وهبة بالهدوء فى طرح اجتهاداته، فتجد صدى واسعاً وانتشاراً بين المعتقدين فى أهمية ترسيخ أساس الدولة المدنية المصرية.
نقطة ومن أول السطر..
«العلمانية» ليست ضد الدين، ولكنها تقوم على الفصل بين ما هو دينى وما هو سياسى، وترفض التوظيف السياسى للدين لأنه ينتهى بالتشكيك فيه، وترفض استغلال الدين للسياسة حتى لا نصنع أصوليات دينية متطرفة.
نقلا عن الوطن