-١-
كنت أظن أن مواقع التواصل هى «الصحافة المقابلة» للصحافة الورقية، لكنى اكتشفت بالتجربة أنها ساحة الحق قليلًا وساحة الباطل بلا حدود، ولقد عشت بنفسى معارك ضارية وكانت لغة مواقع التواصل فيها متدنية، وبلغة الشارع «واطية» لا تصدر إلا من السوقة.
وقد امتلأت هذه المواقع بكل صنوف البشر، المفبركاتى الذى يؤلف سيناريوهات خيالية لم تحدث، والهجّاس الذى يروى على حلقات بطولات وهمية بلا مستند واحد. والكذّاب الذى يقلب الحقائق ويزور الحق. والشرير الذى يضخّم شيئًا تافهًا بقصد البلبلة لا أكثر.. ومعظم هؤلاء لا يقصدون خير مصر، حتى لو كانوا يأكلون من خيرها، أو تربوا على خيرها وغادروا الوطن لأسباب مختلفة، لكن ما يضمرونه لمصر ليس الخير بأى حال. إنهم ينتظرون «اللقطة والسقطة» كما يقول الحِسّ الشعبى، لكنهم فى الواقع يمكن أن يقال إنهم «متنمرون»، أى «متربصون» للبلد.
ويجب أن نفهم أن هؤلاء يتقاضون مبالغ سخية من أجهزة مخابرات وتنظيمات سياسية وشبكات غامضة، فكلها لها هدف واحد هو إسقاط الدولة والتحريض على كراهية النظام. ومعظم هؤلاء «احترافيون» فى صنع سيناريوهات الشر. بعضهم فى الداخل يختبئ فى المفاصل، وبعضهم فى الخارج يعلنون عن أنفسهم ولهم شاشات وبرامج. ناهيك عن أن بعض هذه الشاشات كارهة لمصر ونظام مصر ورئيس مصر. وفى سبيل ذلك تفتح شاشاتها على مصراعيها للهجاسين، وهم مَن احترفوا الكذب والبهتان والتزوير بأجر.
-٢-
هؤلاء «الهجاسون» يخاطبون الشعب المصرى بكل أطيافه، وفيهم من يصدق دون أن يفكر، ومنهم من يتوجس ويحس بطعم السُّم بين الكلام، وهناك من يرفض «الهجس» جملةً وتفصيلا، ذلك الأخير الرافض للهجاسين يرفض عن وعى. عن مسؤولية. عن إدراك. عن فهم. وعن وطنية. إن جهاز الوعى عنده يقظ، ودون وعى تمر الأكاذيب فى ثوب حقائق، ودون وعى نصدق ما يقال وقد نردده. ومن هنا بُح صوتى عندما طالبت باستديو الوعى، أسوة باستديو التحليل الرياضى. إنها مأساة أن يجلس ٤ كباتن يحللون فى حماس بالغ جون هز الشباك، ولا نملك استديو وعى يرفع سقف الوعى عند الناس التى تتلقى شائعات وهجايس وافتراءات، وقد يصدقونها ويحكون وقائعها لأن جهاز الوعى قد أبطله الجهل أو عطلته السذاجة. باختصار: الوعى هنا غائب!.
-٣-
لا يوجد تعريف محدد علميًّا لكلمة الوعى يمكن تداوله بين الأكاديميين، هناك التعريف الأقرب الذى يرى أن الوعى هو «الإدراك». هناك مدارس فلسفية تقول إن الوعى هو «صحوة الفكر». هناك قاموس نفسى صاحبه العالم «لالاند» يرى أن الوعى هو «المعرفة والإحاطة». وهناك مدرسة ترى أن الوعى قد يكون من نصيب جاهل لم يتعلم. ولكنه «يعى» ما حوله جيدًا، وأبسط درجات الوعى هى «الوعى الصحى»، فالناس فى الغالب يعرفون بالسليقة المحظورات الصحية، وبعض هذا الوعى قادم من شذرات قليلة فى التليفزيون. أما الوعى السياسى بعيد النظر القادر على التمييز فهو غائب وغير حاضر بالدرجة المطلوبة، ولهذا تمر بعض الشائعات دون تصدٍّ لها بعقل. إن الوعى هو فى الواقع أحكام على ما نسمعه أو نراه أو يردد أمامنا، وما هو إلا «عمليات ذهنية» عُليا، كالإدراك والتذكر والتخيل، تصل بنا إلى الرفض المطلق إذا كان مسيئًا للبلد.
أعود وأقول وأردد إن الوعى هو «تربية ذهنية» تعتمد على الإدراك والإحاطة، هى أكبر من نشر الأكاذيب وحقيقتها. هى أكبر من النصح الإعلامى على لسان مذيع أو متحدث رسمى لوزارة أو هيئة. إن البديل الوحيد للوعى هو الغيبوبة والغفلة، وهذه أكبر شريحة خصبة لبذور البلبلة والسلبية. هناك «الوعى العفوى التلقائى» وهو لا يتطلب أى جهد ذهنى، إنه وعى أولاد البلد والبسطاء الذين ينتمون للوطن دون حسابات مسبقة. إن الفيلسوف ديكارت مثلًا يرى أن «الشك هو السبيل الوحيد إلى اليقين». إنه يقول «أنا أفكر إذن أنا موجود»، معنى هذا أن الوعى هو «انفتاح على العالم وعلى الآخرين». إنه الوعى القائم على المعرفة والخبرة والإحاطة والإدراك، وسارتر يعتقد أن «الآخر هو الذى يجعلنى أعى ذاتى». نعم، الآخر عنده هو الوسيط للعالم والإدراك. كم ينقصنا هذا الفهم حتى «نغربل» ما نسمع أو نرى!، كم ينقصنا هذا الرشد حتى نضرب الشائعات فى المهد!. ذلك ما تبحث عنه دومًا كل أجهزة الحكم، حتى فى أكثر الدول ديمقراطية، تظل المعلومة الخطأ الشاردة فوق الألسنة حتى يقضى عليها الوعى باليقين.
-٤-
الدول الكارهة لمصر أو أجهزة المخابرات الحاقدة على مصر تحترف «لوى عنق الكلام» بسرعة الصوت والضوء وبمهارة وحرفية شديدة، وأضرب مثلًا محددًا لكلام الوزيرة الناجحة ابنة الدبلوماسية المصرية فى مراحل نضجها وقوتها المؤثرة السفير نبيلة مكرم، التى كانت فى كندا، فى تورنتو على وجه التحديد، تحضر لقاءً مهمًا هو جزء من نشاطها وحركتها كوزيرة عينُها قبل قلبها على أحداث العالم المتلاحقة، عينها قبل قلبها على المصريين تحت أى سماء، هى التى طارت إلى نيوزيلندا إثر حادث إرهابى، هى التى طارت إلى الكويت لمهمة إنسانية بشأن مصرى، هناك دائمًا «مقعد فى طائرة» إلى أى مكان على خريطة العالم «جاهز» إذا بلغ نبيلة مكرم أنّ أذىً طال مصريًا أو أسرته.
سافرت نبيلة مكرم إلى كندا، والمناسبة «فعاليات الاحتفال بشهر الحضارة المصرية». كان اللقاء يضم ٣٥٠ من شباب المصريين فى الخارج، وهم أبناء الجيل الثانى والثالث. انطلقت السفيرة نبيلة فى مبادرة «No Place Like Home» وقالت My Egypt. قالت إن هذا الجيل «الصاحى» هو الذى ينقل الواقع الحقيقى لمصر كبلد آمن، إنهم سفراء لمصر فى الخارج. وقالت السفيرة الوزيرة «إن مصر قوية بشعبها والقيادة السياسية تُرجع الفضل للشعب المصرى لتحمله جميع التحديات، التى مازلنا نواجهها». الجدير بالذكر أنه بحضور وزيرة الهجرة انطلقت المرحلة الثالثة من مبادرة «عقول عظيمة».
كانت زيارة السفيرة نبيلة مكرم ابنة الخارجية المصرية «التى تتكامل معها ولا تتنافس» زيارة ناجحة. وبعد الكلمات والطقوس جلست «المصرية» نبيلة مكرم مع ضيوف اللقاء فى دردشة حرة، وقال أحد الجالسين: نحن نتعرض هنا لكلام سخيف من المغرضين والأشرار عن مصر، قالت الوزيرة إنها أحقاد نفهمها جيدًا ويتمنون «جَرّ» أحد للتعليق، فلا نعطيهم هذا الحق، إنهم يريدون لوى عنق الكلام وتطويعه لخدمة أغراضهم ونواياهم. وعندما كانت السفيرة تخاطب حشدًا من المغتربين المصريين أكدت أن كل من ينتقد بلادها يستحق أن «يقطع». اقتُطِع التصريح من سياقه، فلم يكن هدف الوزيرة الترويج للعنف وبمهارة شريرة بلا سقف، التقطوا صورة الوزيرة وهى ترفع يدها نحو رقبتها مقلدة حركة اليد أثناء الذبح!!. وحقيقة الأمر كما رواها لى شقيق زوجتى الراحلة، وهو طبيب نفسى حضر اللقاء، قال: حين قال أحد الجالسين إننا نسمع بآذاننا شتيمة مصر من أشخاص نعرف هويتهم وللأسف مصريون ولكنهم فروا بعد إنهاء زمانهم فقلنا جميعًا «والله اللى يجيب سيرة مصر بسوء يتقطع»، وكانت الوزيرة «بنت مصر» تردد: «هنعلّمه الأدب ونربيه كمان وينقطع لسانه». إنه نفس الرد التلقائى لو كنت أحضر هذا اللقاء.
لكن الأشرار نشروا على مواقع التواصل صورة للوزيرة وهى تعبر عن الذبح، وتناقلتها مواقع التواصل بسرعة خاطفة مع «لوى عنق الكلام» لكى يحققوا الهدف المسموم. فقد حدث اجتزاء متعمد لكلامها. بعض المتحفظين انتقدوا الوزيرة. إنه «نقد كلاسيكى» يجعل من الوزيرة الناجحة الديناميكية تمثالًا من الشمع بلا روح، وليس هذا صحيحًا بالمرة، إنها قبل أن تكون مسؤولة سياسيًا وسفيرة ووزيرة، هى سيدة مصرية فاضلة بالتاريخ والجغرافيا ولها مشاعر وانتماء. إنها أولًا وأخيرًا نبيلة مكرم المواطنة المصرية ترفض بكل إباء ما يمس الوطن الغالى بأدنى سوء. إنه الانتماء فى أبلغ صوره.
نقلا عن المصري اليوم