عادل نعمان
حاولت فى هذا المقال أن أطوع القلم ولا يعمم الحكم على كل المستشفيات الخاصة، ويكتب كل حين «بعض» أو «بعضاً» منهم، فأبى وزرجن، ولسان حاله يقول: «لم أسمع يوماً عن هذا البعض الذى تميل إليه، وسأعمم الحكم، ومن رأى ومن جرب من القراء هذا «البعض» يضعها فى المقال على هواه، ومن لم ير ولم يجرب يعتمدها كما أكتب، والاثنان لهما الأجر والثواب».
بتنا ندعو جميعاً، نحن المقبلين على المرض، أو العجز، ونفاد الصحة، دعاءً واحداً، كلما خلدنا إلى النوم أو شددنا الرحال إلى السفر: «اللهم خدنا منها على خير، ولا تحوجنا لنصب وغش المستشفيات الخاصة، أو إهمال وتسيب وفوضى المستشفيات الحكومية»، والموت واحد وإن اختلفت أسبابه، إلا أن يكون من هول النصب والغش ممن كانوا حراساً وأمناء عليها، أو الذين أقسموا على استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، فما كانوا أمناء عليها، ولا أنقذوها حين رفعت يدها تطلب المساعدة. ولا أراكم الله مكروهاً فى عزيز لديكم، دخل بصحته وخرج على نقالة، أو دخل بكحة ووجدها بقدرة قادر فشلاً رئوياً، أو مغصاً معوياً فبشروه بأورام فى القولون، أو دخل على أمل روشتة بعلاج بسيط فخرج بعد أن استدان أولاده ومدوا أيديهم إلى خلق الله، يقسم وهو على فراش المرض ألا يعود إلى إمبراطوريات الفساد، أقولها عنهم، نحن ضحايا النصب والغش فى المستشفيات الخاصة بلا خجل أو حياء أو رحمة.
من أين نبدأ بلا نهاية؟ وأين نذهب بلا هدف؟ ومن أين ندفع لهؤلاء؟ وكيف إذا دخلنا نخرج؟ وكيف إذا خرجنا نعيش؟ هذه مصيبتنا مع إمبراطوريات الفساد والفوضى.
البداية من المشهد الأول: على أبواب الطوارئ، والمبالغة فى مبلغ التأمين أو التعجيز، أو جرجرة الزبون على عماه!! إلى تحليلات وأشعات داخل المستشفى وخارجه، وربما يكون الطبيب قد شخّص العلة من البداية، إلا أن وزن الطبيب وقدره ومكانته ودخله على اتساع ما يدفعه المريض، سواء لحاجة أو لغير، ولا يشعر الطبيب بتأنيب الضمير أو يلوم نفسه على ما أسرف وشد على الناس وضيق الأمر عليهم، وهو يعلم بحالهم، ويعرف أن معظم المترددين على هذه المستشفيات الخاصة ليسوا بقادرين على تكاليفها، إلا أنهم مضطرون بسبب انهيار الخدمة فى المستشفيات الحكومية.
المشهد الثانى: الطبيب يقرر إجراء العملية، يستدعى الأمر أو لا يستدعى، تسرع أو تباطأ، كله محل ريبة وشك، وسيادته لا يتقاضى أتعابه من المستشفى بل يأخذها نقداً ويداً بيد وقبل إجراء العملية، ولا يدفع عن هذه الأتعاب الضرائب المستحقة «وكتبنا فى هذا الأمر من قبل ولم تتحرك وزارة المالية، ممثلة فى مصلحة الضرائب»، وكانت أسداً جسوراً على أصحاب المحلات، وسائقى التاكسى، وغضت الطرف عن هذه الملايين، تهرب تحت سمعها وبصرها، وكان الأحق والأصوب ألا يتقاضى جراح أو طبيب واحد أتعابه خارج حدود المستشفى، وهو أمر بسيط أن يلزم القانون المستشفيات بهذا، لحصر أرباحهم ودخولهم، ومن يخالف من الطرفين يحاسب محاسبة المتهربين ضريبياً، إلا أن هذا الأمر مشكوك فيه، ومجاملاته تزكم الأنوف، والشركاء فى هذه المستشفيات من كافة المناصب، يمنعون الحساب والعقاب، بل يساعدون على الفساد ويمهدون لتعاقدات ليست خالصة، وحق الناس والدولة لا حسيب أو رقيب عليه.
المشهد الثالث: ساعة الحساب، وما أدراك ما هول ساعة الحساب، يحكى صديقى عن واقعة فى مستشفى خاص، حين استفسر عن تكلفة مرور طبيب مذكورة فى فاتورة المستشفى وكان المبلغ ملحوظاً ومبالغاً فيه، ولم يكن تخصص الطبيب له علاقة بمرضه المفاجئ، وأصر على رفض هذا المبلغ بحجة أن هذا الطبيب لم يحضر لزيارته، إلا أن إدارة المستشفى ذكرت له الواقعة ووصفت له الطبيب وشكله وطوله وعرضه، عندئذ تذكر صديقى «هذا الطبيب الزائر»، وتعجب من مروره العابر الذى تقاضى فيه كل هذه الأتعاب، وقال لهم: صحيح، فقد جاءنى وعرفنى بنفسه وسألنى سؤالاً واحداً عن أحوالى، وضحكنا، وراح إلى حال سبيله، وشكرته وحمدت فضل زيارته وهو لا يعرفنى ولا أعرفه، فربما صديق أوصى إدارة المستشفى، فأرسلت أحدهم للاطمئنان والسؤال، ولو كنت أعلم أنه طبيب زائر سيتقاضى هذا المبلغ مقابل سلامه وسؤاله عن صحتى، ما رددت عليه السلام وما أجبته عن صحتى، هذا النموذج الكوميدى هو السائد فى هذه الإمبراطوريات.
المشهد الرابع: خناقة على الأبواب، وهى خناقة مكررة ومعادة على أبواب الحسابات، ولم تعد تلفت الأنظار، وكل هؤلاء السابقون ونحن اللاحقون، وعادة تمر لحساب المستشفى وعلى رقبة المريض وأهله حتى لو غادر الدنيا.
نحن قوم قد ألفنا الصعب، لا نحل مشاكلنا ولا نربط مصائبنا، تظل مصائبنا تدور معنا ليل نهار، تنام بعدنا وتستيقظ قبلنا، تسبقنا على الأبواب، تتقدم الخطوط والخطوات، تضيق علينا الطريق، وتفتح علينا أبواب المحن والبلايا، تربط أيادى المسئولين وتغلق عقولهم وعيونهم عن هول ما نلاقيه من محن وملمات، فلا نبرأ من ظلمها، مرض مزمن متوطن، متروك بفعل فاعل، ورث أجداد مسجل لا خلاص ولا فكاك منه، أوليس لنا من يوم نهدأ فيه من رحلات الشقاء؟ المرض فى بلادى موت وخراب ديار، العلاج حق، إلا فى المستشفيات الخاصة باطل وألف باطل، لحم ميتة آن الأوان أن نأكل غيره، لا حل سوى رفع كفاءة مستشفيات الدولة، ووضع ميثاق خدمة وأسعار واضح للمريض فى هذه الإمبراطوريات.
نقلا عن الوطن