لا يوجد عاقل على ظهر الكرة الأرضية، من كافة القارات والديانات والجنسيات، وليس فى مصر فقط، لا يستبشع الجريمة الخسيسة التى ارتكبها متعصب ألمانى مهووس ومسكون بالعنصرية والكراهية ضد المواطنة المصرية مروة الشربينى، ولا يستنكر الغياب الأمنى المذهل فى مسرح الجريمة، والذى هو فى نفس الوقت قصر العدالة.
ولا يوجد شخص يتسم بالحد الأدنى من النزاهة لا يتعاطف مع الضحية ويطالب بتوقيع أقصى، وأقسى، العقاب على كل المتورطين فى هذه الجريمة النكراء التى تنضح بالعنصرية والتعصب الأعمى وازدواجية المعايير.
ورغم فهم وتفهم أسباب الغضب الذى اجتاح مصر فى أعقاب كشف النقاب عن هذا الحادث البشع،..،
ورغم عمالة المطالبة بالقصاص من القاتل المتعصب الموتور وإنزال العقاب بكل من تواطأ معه بصورة مباشرة وغير مباشرة ،..،
رغم ذلك كله فأنى أرى مبالغة شديدة فى ردود الأفعال، وشحناً زائداً أكثر من استحقاقات الحادث فى حد ذاته، وخلطاً شديداً للأوراق ربما يخفى أجندات غير معلنة لأطراف متعددة يحاول كل منها توظيف هذه المأساة الإنسانية والمتاجرة بدم مروة الشربينى حسابات أخرى.
وبعيداً عن التفتيش فى الصدور وضرب الأخماس فى الأسداس عن النوايا والمقاصد لهذا أو ذاك، فإن هناك الكثير مما يستلفت النظر بهذه الصدد:
* فهناك أولاً ذلك التعميم غير المبرر لصفات سلبية على الغرب بأسره، واتهام الجميع فى هذا "الغرب" بأنهم عنصريون ومعادون للإسلام والعرب. وهذا استنتاج ومتعسف لا يدانيه إلا الإستنتاج الأخرق للدوائر الأمريكية التى كان يدور فى فلكها الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش الابن والتى كانت تتبنى أفكاراً مماثلة عن حضارات الشرق وبالذات عن الإسلام والمسلمين فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001.
صحيح أن هناك متعصبون فى الغرب، مثل بوش ومثل ذلك المجرم العنصرى الذى قتل إبنة شربين، لكن لا يمكن تعميم ذلك على كل الغربيين، بالضبط كما نطالب – بحق بعدم تعميم جرائم حفنة من الإرهابيين المتطرفين والمتعصبين الذين ينتمون إلى ديننا الإسلامى وقوميتنا العربية على كل العرب والمسلمين.
• وهناك ثانياً هذه الإزدواجية فى المعايير، التى نشكو من ممارسة الغرب لها ضدنا، ونضبط أنفسنا – فى هذه المناسبة وفى مناسبات أخرى كثيرة غيرها – متلبسين بالتورط فى ممارستها.
ألم يتم قتل أفراد أوربيين، فرادى وجماعات، على أرضنا دون ذنب جنوه، سوى أنهم جاءوا لزيارة بلادنا والاستمتاع بالسياحة فيها، سواء كانت هذه السياحة ثقافية أو ترفيهية.
وألم يرتكب هذه الجرائم الإرهابية نفر منا، مصريون ومسلمون؟
فهل كنا نوافق على أن يقوم الغربيون بتعميم هذه الجرائم علينا جميعاً، وأن يفعلوا ما نفعله الآن من تضخيم للأمور حتى يكاد المرء يتصور أننا ندق طبول الحرب مرددين هتافات: وا إسلاماه!
• ثم لماذا هذه "التعبئة" الآن بالذات فى حادث مروة الشربينى، رغم أنه ليس الحادث الأول من نوعه، بل إن هناك العشرات والمئات من المصريين والمصريات، وآلاف العرب والمسلمين تعرضوا إلى حوادث مماثلة دون أن تكون هناك ردود أفعال مماثلة؟ بل لماذا لم نشهد تحركا مشابهاً عندما تعرض ملايين العرب والمسلمين لحروب إبادة على يد جيوش الاحتلال الأمريكى مثلما حدث فى العراق؟
• ولماذا يصر البعض على صب الزيت على النار حتى بعد اعتذار وزير العدل الألمانى وتعهده بإجراء تحقيق شامل ينتهى بتقديم كل المتورطين إلى العدالة، بينما صمت الجميع صمت القبور فى حالات مشابهة، لم تحرك فيها الدول التى وقعت فيها مثل هذه الحوادث ساكناً وتعاملت معنا بعجرفة؟
• فهل هذا التصعيد سحابة دخان تستهدف إخفاء أجندات أخرى لا علاقة لها بالموضوع أو تمرير أجندات أخرى بينما الجميع منشغلين فى دق طبول الحرب على ألمانيا التى أصبحت العدو الرئيسى لنا فجأة؟
كل هذه التساؤلات ليس معناها التهاون فى حق مروة الشربينى، أو التوقف عن كافة أشكال الضغط الشعبى والرسمى حتى تأخذ أسرة مروة هذا الحق كاملاً غير منقوص وتحصل مصر على حقها فى الدفاع عن كرامة أبنائها.
المقصود هو أن تكون ردود أفعالنا موضوعية ونزيهة وعاقلة حتى لا نقع فى ازدواجية المعايير التى نشكو منها، بل وأن تتطور هذه الإزدواجية لتكون ازدواجية فى الشخصية.
والأهم أن ردود أفعالنا المشروعة يجب ان تكون متزنة ومحسوبة وغير عاطفية، حتى لا نندم غداً بعد أن تؤدى هذه الحملة الساخنة جداً إلى خدمة أغراض أخرى معاكسة، وتغذية أفكار متعصبة موجودة أصلاً أو نائمة تحت الرماد، فنفاجأ غداً بأحد هؤلاء يطعن سائحاً أجنبيا فى ظهره، بعد هذه الحملة العصبية التى يختفى فيها التمييز بين درجات الطيف السياسى والثقافى فى الشعوب الغربية.. ويصبح معها كل الغربيين أهدافاً مشروعة للقتل .. فهل هذا ما نريده؟!
نقلا عن موقع الحوار المتمدن |