د.مينا بديع عبدالملك
وُلد محمود شلتوت فى «منية بنى منصور» التابعة لمركز إيتاى البارود بمحافظة البحيرة سنة ١٨٩٣م، حفظ القرآن الكريم وهو صغير. ودخل معهد الإسكندرية ثم التحق بالكليات الأزهرية، ونال شهادة العالمية من الأزهر سنة ١٩١٨م، وعُين مدرسًا بمعهد الإسكندرية سنة ١٩١٩م، شارك فى ثورة ١٩١٩م بقلمه ولسانه وجرأته، ونقله الشيخ محمد مصطفى المراغى لسعة علمه إلى القسم العالى، وساند حركة إصلاح الأزهر وفُصل من منصبه واشتغل بالمحاماة ثم عاد للأزهر سنة ١٩٣٥م، اختير عضوًا فى الوفد الذى حضر مؤتمر «لاهاى» للقانون الدولى المقارن سنة ١٩٣٧م، وألقى فيه بحثًا تحت عنوان «المسئولية المدنية والجنائية فى الشريعة الإسلامية».
فى سنة ١٩٤٦م عُين عضوًا فى مجمع اللغة العربية، وانتدبته الحكومة لتدريس فقه القرآن والسُنة لطلبة دبلوم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق فى سنة ١٩٥٠م، وعين مراقبًا عامًا للبعوث الإسلامية، فوثق الصلات بالعالم الإسلامى، وفى سنة ١٩٥٧م. أختير سكرتيرًا عامًا للمؤتمر الإسلامى، ثم عين وكيلًا للأزهر. وفى سنة ١٩٥٨م صدر قرار بتعيينه شيخًا للأزهر، وسعى جاهدًا للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وزار كثيرًا من بلدان العالم الإسلامى.
وصدر قبل وفاته قانون إصلاح الأزهر سنة ١٩٦١م، ودخلت فى عهده العلوم الحديثة إلى الأزهر، وأنشئت عدة كليات فيه وارتفعت مكانة شيخ الأزهر، حتى لاقى من الجميع كل الإجلال، وكان يحترمه قادة العالم ويرسلون إليه الرسائل، ومنهم الرئيس الفلبينى الذى وضع طائرته الخاصة وياوره الخاص تحت تصرفه طوال رحلة الشيخ شلتوت إلى الفلبين، وأيضًا الرئيس الجزائرى أحمد بن بيلا، الذى أرسل إليه ليطمئن على صحته عندما مرض وزاره فى منزله، وكذلك زاره الرئيس العراقى عبدالسلام عارف وغيرهما، ومنحته أربع دول الدكتوراه الفخرية، كما منحته أكاديمية شيلى درجة الزمالة الفخرية، وأهدى له رئيس الكاميرون قلادة تقديرًا لأبحاثه العلمية.
كان واسع الأفق قادرًا على أن يصور الخلاف نعمة، وأن يسعى وراء الاعتراف بالخلاف ومناقشته من أجل التقريب لا من أجل الزعم بالتصويب، وكانت مكانته العلمية التى ترسخت فى عهد الليبرالية قد أعطته من قوة الاسم نفوذًا فكريًا خدم قضية الهوية.
الشيخ محمود شلتوت هو أول من لُقب بلقب الإمام الأكبر، بعد أن صدر قانون التطوير «١٩٦١» ونص على هذا، كما أنه هو شيخ الأزهر الوحيد الذى توفى وهو فى منصبه بين من تولوا المنصب فى عهد الثورة الأول ورئاسة الرئيس عبدالناصر، فقد استقال سلفاه الجليلان الشيخان «عبدالمجيد سليم» و«محمد الخضر حسين»، وأبعد الشيخ «عبدالرحمن تاج» بأن عين وزيرًا اتحاديًا، واستقال خلفه الشيخ «حسن مأمون» بناء على طلب الدولة.
تميز الشيخ محمود شلتوت بأنه إمام التقريب، مع أن سلفه غير المباشر الأستاذ الأكبر الشيخ عبدالمجيد سليم كان هو رائده فى هذه الدعوة، لكن الشيخ شلتوت كان هو من مضى بالفكرة خطوات واسعة وواثقة، وفى عهده تم إصدار الموسوعة الفقهية معتمدة المذاهب الفقهية الإسلامية الثمانية: الحنفى، والشافعى، والمالكى، والحنبلى، والجعفرى، والزيدى، والإباضى، والظاهرى.
لمع اسم الشيخ محمود شلتوت فى مجال الفتوى والعلوم الإسلامية منذ مرحلة مبكرة، والحق أنه ظل محتفظًا باللمعان حتى وفاته فجأة وهو شيخ للأزهر، وكان حين توفى ألمع علماء عصره بلا جدال، ويذكر له أنه لم يغفل قضية فقهية من قضايا عصره دون أن يصدر رأيه فيها، إنه كان مصدرًا رفيعًا من مصادر الفتوى فى كثير من شئون الفقه ومسائله.
وقد مارس الشيخ محمود شلتوت الإمامة الحقيقية للمسلمين فى أثناء قيامه على أمر الأزهر وكيلًا وشيخًا، وقد قام برحلات علمية إلى مختلف البلاد الإسلامية زائرًا وداعيًا إلى الائتلاف، فلمس من أحوال المسلمين ما دعاه إلى العمل على التأكيد على تقرير تدريس اللغات الأجنبية بالأزهر، ليبعث من طلابه مَنْ يصلحون لمخاطبة المسلمين فى كل مكان، ومن البلاد التى زارها: إندونيسيا، والملايو، والفلبين، وهونج كونج.
طالب الشيخ محمود شلتوت منذ مرحلة مبكرة بأن يُعاد النظر فى مناهج الأزهر وكتبه، حتى تعبر تلك الكتب والمناهج عن النهضة الحديثة، وقد ظل الشيخ محمود شلتوت على ما عهد فيه من روح الثورة والرغبة فى التقدم، حتى إنه يذكر له أنه كان واحدًا من الثائرين على تباطؤ الشيخ «محمد مصطفى المراغى» نفسه فى الإصلاح بعد عودته إلى الأزهر عام ١٩٣٥.
بعد الثورة بفترة عُين الشيخ محمود شلتوت مستشارًا فى المؤتمر الإسلامى الذى كان الرئيس أنور السادات رئيسًا له، ومن خلال هذا الموقع أتيحت له الفرصة لأن يشارك فى اجتماعات أسبوعية مع علماء من بلاد الإسلام، وأن يتعامل تعاملًا مباشرًا وتنفيذيًا مع بعض قادة الثورة ومسئولى العهد الجديد، وقد عُين الشيخ محمود شلتوت وكيلًا للجامع الأزهر فى عهد مشيخة الدكتور الشيخ عبدالرحمن تاج، وكان بعض الصحف المتصلة بالحركات والتجمعات الإسلامية ترى الوضع مقلوبًا، وترى الشيخ محمود شلتوت أولى بالمشيخة من الدكتور الشيخ عبدالرحمن تاج.
جاء الشيخ محمود شلتوت إلى المشيخة فى ١٣ من أكتوبر ١٩٥٨، وقد صدر فى عهده قانون تطوير الأزهر المعروف بالقانون رقم ١٠٣ لسنة ١٩٦١ بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها، كما أصبح عضوًا ورئيسًا لمجمع البحوث الإسلامية، وشاءت الأقدار ألا يحضر افتتاح جلسات ذلك المجمع بسبب وفاته المفاجئة، وإلى الشيخ محمود شلتوت يرجع الفضل فى نشر تعليم الفتاة فى الأزهر، وهو الذى بدأ سياسة إنشاء معاهد الفتيات الأزهرية، وكلية البنات الإسلامية.
عاش الشيخ محمود شلتوت حياة شخصية وعائلية أقرب إلى المثالية، كان نجمًا لامعًا، وإنسانًا عظيمًا فى الوقت نفسه، وقد ظل حب الخير متمكنًا من نفسه طيلة حياته، قضى الشيخ محمود شلتوت معظم حياته يسكن فى شقة بالدور الثالث من عمارة معروفة فى شارع إسماعيل الفلكى بحى الظاهر، وفى أخريات حياته انتقل عام ١٩٥٨ إلى بيت خاص به فى مصر الجديدة، وقد ترك أربعة أنجال: إيهاب الضابط، والمهندس سعيد، وخبير البترول أحمد، وجلال موجه العلوم بالأزهر، وأربع بنات: نزيهة، وحكمت، وفوزية، وفكرية، ورُزق بأربعين حفيدًا.
عانى الشيخ محمود شلتوت متاعب متعددة ومتوقعة طيلة توليه المشيخة، وقد وصلت الأمور إلى حد أنه قدم استقالته فى ٦ من أغسطس ١٩٦٣، وقد ذيَّل استقالته بأنه لن يقبل على دينه وكرامته السكوت على تضييع أمانة الأزهر مطالبًا بإعفائه منها: «.. وليس أمامى إلا أن أضع استقالتى من مشيخة الأزهر بين أيديكم بعد أن حيل بينى وبين القيام بأمانتها..». وبالمواكبة لهذا أصيب الشيخ محمود شلتوت من جراء ممارسات السياسة القاسية والعمل الشاق بالشلل فى نصفه الأيسر، وابتعد عن ممارسة منصبه.
ولما بدأ رجال الحكم يشعرون بالحرج أمام الزائرين الأجانب الذين يلحون فى طلب زيارته، أشاعوا بأنه اعتزل الحضور للأزهر بسبب مرضه، فما كان من الشيخ الثائر إلا الإعلان عن سفره إلى قطاع غزة بالسيارة الجيب، وقد حرص على أن يترك السيارة ليسير على قدميه ليتفقد أحوال أهلها.
ولم تمض شهور أربعة بعد هذه الاستقالة حتى دخل الشيخ محمود شلتوت مستشفى الجمعية الخيرية بالعجوزة لإجراء إحدى الجراحات، ونجحت العملية، ولم يكن الشيخ مرحًا فى يوم من الأيام أكثر منه فى يومه الأخير بعد الإفاقة من البنج، فقد ظل يداعب أحفاده، وقبل أن تصعد روحه إلى بارئها بدقائق، ثم توقف فجأة: أزمة قلبية طارئة، ويبدو من هذا الوصف الذى أوردته مجلة «نصف الدنيا» نقلًا عن عائلة الشيخ محمود شلتوت أنه أصيب بانصمام رئوى وليس بأزمة قلبية، وكان ذلك فى ٢٤ أبريل ١٩٦٣، وقد أقام له مجمع اللغة العربية حفل تأبين مهيبًا، تولى تأبينه فيه عضوان من أعضاء المجمع.
نقلا عن الدستور