تقول الأسطورة إنه فى قديم الزمان والناس نيام، التقى الصدق مع الكذب من غير ميعاد، فنادى الكذب على الصدق قائلاً: «يا طاهر النية ونقى القصد ألا ترى اليوم مشرقاً والمناخ معتدلاً والأحوال تبدو رائعة فى المجمل». فنظر الصدق حوله وتطلع إلى السماء فوجدها صافية براقة وكان حقاً الجو بديعا والدنيا ربيعا وقضيا معاً بعض الوقت حتى وصلا إلى بحيرة هادئة، فأنزل الكذب يده فى الماء موجهاً كلامه للصدق: «يا طوق النجاة وصائب الاتجاه ألا تشعر؟! المياه جارية وفى جريانها دفء حنون وإذا أردت يمكننا أن نسبح معاً». وللغرابة كان الكذب محقاً هذه المرة أيضاً، فقد وضع الصدق يده فى الماء ووجده دافئاً حنوناً وقاموا بالسباحة بعض الوقت، وفجأة من دون إنذار، خرج الكذب من الماء وارتدى ثياب الصدق وولى هارباً فخرج الصدق المسكين من الماء غاضباً عارياً لا يدرى ماذا يفعل وبدا يركض فى جميع الاتجاهات بحثاً عن الكذب السام الذى خدعه وسرق ملابسه، لكنه فشل، وخابت كل آماله وانهارت ثوابته عندما استنكر العالم حاله وهو مجرد من الستر والأمان، ومن شدة خجله وشعوره بالعار على أثر نظرتهم الدونية له، عاد إلى البحيرة، واختفى إلى الأبد تاركًا الظلم والبهتان ومنذ ذلك الحين والكذب فى كل مكان لابسًا الصدق يتجول محققاً كل الشهوات وبعد ألف عام التقيا من جديد ودار بينهما هذا الحوار الهمايونى.
- الكذب: يا هلا بمكارم الأخلاق ومثبت الفضائل مدهش أنك لا تزال حياً بعد قرون من النكران والخذلان.
■ الصدق: النكران والخذلان من شيمة أمثالك الطالحين، أما أنا فلا أبالى إلا بالصالحين.
- الكذب: يا لك من معتوه تحيا فى خرافة المدينة الفاضلة، تلتحف بالأمانة والرصانة وفى اعتقادك أنها سوف تصحبك للسلامة، انظر حولك، حكم عقلك، تأمل واكتشف وقارن وطابق كى تعرف أين تقف من الحياة والكون يتغير، ويتطور إلى عصر التكنولوجيا الرقمية والمعلوماتية الفضائية، أما أنت فتحكمك عقلية إنسانية بدائية متخلفة قوامها مبنى على المشاعر النبيلة والأعراف السامية وما إلى ذلك من سخافات وتفاهات تدمر الإنسان وتعيقه عن الإبداع.
■ الصدق: أنت مسكين أيها البهتان، محكوم بقفطان أجدادك الأشرار فلا أنت قادر على اليقين ولا الموج بين ضلوعك يستريح، يا ليتك تعلم أن الحق فى أقوالنا أقوى لنا والباطل فى أفعالنا أفعى لنا.
- الكذب: أنا لا أكذب، ولكنى أتجمل وأتلون حسب الظروف والأحوال وللصالح العام ولدى طُرقى وأساليبى الساحرة فى ما أنوى بثه وشيوعه، أفضل ألف مرة من منهجك الأجوف والعقيم الخالى من مكسبات الطعم واللون والرائحة، تلك التى تصيب رفقائك بالدوار المزمن.
■ الصدق: أنت الشر بعينه، نفق الأمم المظلم وأتباعك على شاكلتك؛ ينتهجون المراوغة والمماطلة والتصنع والادعاء ومهما استشرى فسادك فى كل بقاع العالم سأبقى أنا ومَن معى من الشرفاء الأجلاء نتبع البر ونحتقر النفاق، ونتجنب صحبة الجهول وكثرة الفضول وإثارة الشرور، ونخشى على عقيدتنا أن تنازعها الآراء وعلى عبادتنا أن تتلاعب بها الأهواء، سنظل أبدَ الدهر نحفظ عفتنا من الحرام وخطوتنا من الآثام، وليكن ما يكون.
- الكذب: أنا الأحق بكل مباهج الحياة أيها المهزوم.
■ الصدق: وأنا الأبقى رغم كل مغريات الحياة أيها الملعون.
ولا يزال الحوار دائراً والنقاش محتداً وكل منهما له مبادئه الوجودية التى يدافع عنها ومبرراته العبثية التى يرتكن إليها، ويبقى السؤال:
لمن ستكون الغلبة؟!
نقلا عن المصري اليوم