ياسر رزق
نحن مقبلون على خريف دافئ، يتلوه شتاء ساخن، عند مستهل عام جديد، يقبل في صخب، يبدد سكون حياة سياسية هادئة بل رتيبة..!
في وداع العام الماضي، ألقيت عامداً متعمداً حجراً ثقيلاً في بحيرة راكدة، حين كتبت داعياً إلى عملية إصلاح سياسي تأخرت، متمنياً أن يجري تدشينها مع حلول هذا العام، ومقترحاً أن تكون بداية الإصلاح، تعديلات اقترحتها على بعض مواد دستور 2014، على رأسها المادة (140) الخاصة بسنوات المدة الرئاسية
أتبعت ذلك المقال بأربعة أخرى في شأن الإصلاح السياسي، بعدما تبنى مجلس النواب الاقتراح، وحوله إلى فعل سياسي تشريعي، انتهى بالاستفتاء على تعديل الدستور.
توقفت عن الكتابة في هذا الموضوع، يوم 21 إبريل الماضي عشية إجراء الاستفتاء، الذي أعقبه شهر رمضان المبارك، فالعطلة البرلمانية التي قاربت على الانتهاء.
الآن أعود لأكتب عن الإصلاح السياسي المنشود، متفائلاً، ومستبشراً، وعندي خليط من تطلعات، وأمنيات، وإشارات، ومعلومات..!
< < <
لن أنساق إلى الدخول في جدل عقيم يثيره هؤلاء الذين يظنون أن الإصلاح الاقتصادي يغني عن الإصلاح السياسي، أو أولئك الذين يحسبون أن تنشيط الحياة السياسية أجدى من تنمية الاقتصاد.
هؤلاء وأولئك في رأيي، أشبه بمن لا يمانع في فقء عين ليثبت لغيره أهمية الأخرى، أو بتر ذراع ليظهر للآخرين قوة الثانية، بينما هو في الحقيقة لا يثبت إلا رعونة، ولا يظهر غير حماقة..!
إن الدولة الحديثة الثالثة التي يرفع عبدالفتاح السيسي قواعدها على أرض مصر، بعد دولتي محمد علي باشا وجمال عبدالناصر، لها أعمدة أربعة تقوم عليها وتنهض بها معاً، هى الإصلاح الاقتصادي، الإصلاح الإداري، الإصلاح الاجتماعي، الإصلاح السياسي.
لا يغني واحد منها عن الآخرين، ولا جدوى لها كلها في غيبة أحدها.
ذلك أن البناء يختل، فلا تستقر الدولة، ولا تبقى..!
قد يكون توقيت البدء بعملية الإصلاح الشامل، اختلف في مسار عن الآخر، وقد تكون سرعات التحرك تباينت، في بعض المسارات عن غيرها.
كل شيء بأوان.
فما كان لأي إصلاح أن يبدأ أو أن يدوم في غيبة استتباب الأمن في البلاد وبث الطمأنينة بين الناس وبسط الاستقرار في المجتمع.
وما كان يمكن في ظل ظروف البلاد بعد ثورة 30 يونيو، الانطلاق على كل مسارات الإصلاح معا وفي وقت واحد، ولا كان من رشد الحكم أو حسن التدبير إعطاء الأولوية لأحدها، دون دراسة مدققة، وأجواء مهيأة، وموارد متاحة.
< < <
مبكراً قلت، واليوم أؤكد مجدداً، إن تعديل الدستور هو نقطة البدء، وليس علامة المنتهى على طريق الإصلاح السياسي.
وإنني أكاد أرى في الأفق شيئاً ما كبيراً، لعله مبادرة تكتمل، أو برنامج يتبلور، أو رؤية تختمر، يقدمها القائد لشعبه تدفع بالإصلاح السياسي خطوات واسعة للأمام، مواكبة لإنجازات كبرى على طريق مسارات الإصلاح الأخرى، يجرى افتتاحها مع حلول منتصف العام الجديد.
< < <
من المفيد توضيح المصطلحات وتحديد المقصود بها والمراد منها، كأيسر الطرق للاتفاق والتوافق أو على الأقل جَسْر الخلافات، لا سيما في المراحل المفصلية في تاريخ الأمم، ومنها هذه المرحلة الانتقالية وهى الثالثة التي نمر بها منذ قيام ثورة 25 يناير.
والإصلاح السياسي ليس عملية ذات نهاية، فهو طريق متجدد مستمر لا يتوقف عند نقطة بعينها.
غير أن الإصلاح الذي ننشده في المستقبل المنظور، يتحقق حينما نبارح مرحلة الانتقال إلى الاستقرار السياسي، ويتوارى القلق إزاء مستقبل الحكم في البلاد، وتصبح الأداة الديمقراطية معبرة بحق عن إرادة الشعب وآماله، ويرتضي المجتمع ومؤسساته بمبدأ التداول السلمي للسلطة بين القوى الوطنية المنضوية تحت لواء الثلاثين من يونيو.
وظني أن اجتياز الانتقالية الثالثة، إلى مرحلة الاستقرار، على أساس الرضا الجماهيري والوعي المجتمعي والنضج المؤسساتي، مسألة يمكن بلوغها بحلول عام 2030، برغم تطلعات وطموحات نأمل الوصول إليها عام 2024.
غير أني لا أعتقد كثيراً في جدوى الهرمونات السياسية، فما يصلح في مفارخ الدواجن البيضاء، لا يصح الأخذ به في ساحات البناء السياسي للأمم.
ومادمنا نتحدث عن إصلاح، فنحن إذن لا نبدأ بناء من فراغ، وإنما نرمم ونغير ونجدد في بناء قائم.
لذا فالنظر إلى الوراء بغرض أخذ العبر ضرورة مستقبل، إذا كنا لا نريد أن نقع في أخطاء سبق لنا ارتكابها، وأدت إلى تقويض الدولة الحديثة الثانية في عهد عبدالناصر، بل كادت تسقط الدولة المصرية برمتها في أحداث ما بعد ثورة 25 يناير، وحتى مجيء السيسي من أقصى المدينة يسعى..!
< < <
من أهم الدروس التي ينبغي أن نستخلصها من الماضي، أن التنظيم الواحد كالاتحاد الاشتراكي، أو الحزب المركزي كحزب مصر والحزب الوطني، وما شابه من تكتلات أو تنظيمات تنشأ بقرارات فوقية، لا يمكنها الصمود أمام تقلبات السياسة وأعاصير الشارع.
فالأحزاب الحقيقية ذات القدرة على البقاء في الحياة السياسية، هى تلك التي تنمو من القاعدة إلى القمة، مثلما النباتات تدب جذورها في الأرض، وتنمو من أسفل إلى أعلى حيث تمتد أوراقها وأغصانها، على سيقان وجذوع لا تقتلعها رياح السياسة.
درس آخر يجب عدم نسيانه، أن التعددية الحزبية، ليست وحدها الوصفة السحرية لصون الديمقراطية، فهذه التعددية هى التي اقتادتنا مدفوعة بانتهازية سياسية، إلى حكم الفاشية الإخوانية في عام السقوط إلى الهاوية.
كذلك.. فالنخبة السياسية، ليست دائماً هى حاملة البوصلة الهادية إلى السبيل في جنح الظلام، ولنا العبرة في مجموعة فندق فيرمونت الذين ذهبوا يبايعون محمد مرسي. وغيرهم ممن أسموا أنفسهم بـ«عاصري الليمون» وأعلنوا تأييدهم لمرشح الفاشية الإخوانية وجرفوا معهم بسطاء أقل وعياً كانوا يظنون أن هؤلاء هم أصحاب الرأي السديد..!
أما الدرس الأهم في نظري، فهو أن العملية السياسية، تنتهي صلاحيتها في نفس اللحظة التي تفارق فيها المصلحة الوطنية للبلاد، أو تبتعد فيها عن مصالح الغالبية العظمى من المواطنين، أو تتحول عندها نحو الأوليجاركية كزواج الثروة بالسلطة أو استحواذ جماعة على مقاليد الحكم في البلاد.
حينئذ يدخل النظام والحياة السياسية برمتها إلى حالة موت سريري، تنتظر من ينزع عنها الأسلاك..!
< < <
عندما أتحدث عن الإصلاح السياسي، فإنني أقصد تحديداً، توسيع روافد الحياة السياسية، وزيادة منابعها التي تمدها بالقادة الأكفاء والقيادات المؤثرة في أعلى مستويات السلطة والحكم.
الجيش هو مصدر الإمداد الأول بالشخصيات المؤهلة للحكم، وأحسبه سيظل كذلك زمنا.
بينما البيروقراطية المصرية في الجهاز الإداري وجهات الحكومة، هى المصدر الأغزر في تفريخ القيادات على المستويات العليا والوسيطة.
مصدر ثالث لا ينبغي نكرانه، هو المجالس النيابية، كالمجالس المحلية التي تعد مصدر تفريخ أعضاء البرلمان في المستقبل، ومجلس النواب الذي يرتبط مع الحكومة في النظم الديمقراطية الناضجة بعلاقة إمداد متبادل ذات طرفين. بينما مجلس الشيوخ الجديد هو مخزن الخبرات الذي يتجمع فيه أصحاب الرؤى والتجارب في العمل التنفيذي والحزبي.. أو هكذا يفترض أن يكون..!
غير أن المجالس النيابية تحتاج أساساً إلى أحزاب نشطة قوية فعالة متصلة بالجماهير، ذات اتجاهات سياسية مدنية واضحة وبرامج متكاملة.
هذه الأحزاب هى التي ستتنافس على كسب ثقة الجماهير في الانتخابات البرلمانية، ليفوز بالأغلبية منها حزب منفرد أو ائتلاف يجمع أحزاباً متقاربة في الأفكار والبرامج، تسعى لتشكيل الحكومة.
من ثم لابد من تعبيد الطريق أمام الأحزاب التي يبلغ عددها 104 أحزاب، ليتكتل المتشابه منها في الرؤى والاتجاهات ولعلهم يندمجون، وأحسب من الضروري تحفيز عملية الائتلاف والاندماج تحت مظلة رعاية وطنية غير منحازة إلا للمصلحة العامة وأظنها مؤسسة رئاسة الجمهورية، بل الرئيس السيسي نفسه.
الأحزاب هى التي ستمد المجالس المحلية بالأعضاء من النشطاء في القرى والمراكز، والبرلمان بالنواب المسيسين، والحكومة بالوزراء السياسيين وستطرح مرشحيها للرئاسة في انتخابات تعددية تنافسية في المستقبل المنظور.
وللإنصاف، أقول إن هناك مساعي محمودة لزيادة منابع الإمداد بالشخصيات في الحياة العامة والسياسية، منها البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب الذي سنلمس نتائجه ونشاهد ثماره في وقت قريب سواء في جهات الدولة أو البرلمان.
هناك أيضا مبادرة إنشاء تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، وهى مبادرة طيبة لجمع الشباب المنتمين لقوى سياسية متنوعة على أرضية المصلحة الوطنية، لكنها تحتاج إلى إلقاء الضوء عليها جماهيرياً من جانب الإعلام، وتحتاج من الشباب المنضوين تحت لوائها إلى التحام أعمق بالقواعد الجماهيرية يلمسه المواطن العادي، في مجالات عديدة لا تقتصر على توزيع المواد الغذائية في شهر رمضان أو ما شابه.
< < <
المصارحة مع صناع القرار وقبلهم مع الشعب مصدر السلطات، تقتضى القول بأن الإصلاح السياسي الحقيقي، ينبغي أن يتم في مناخ من حرية الرأي والتعبير والإبداع. فالمشاركة المجتمعية مسألة حتمية لإعلاء البناء السياسي الديمقراطي، وهو ما يستوجب توسيع المجال العام في ممارسة حرية الرأي والتعبير في الصحافة والإعلام دون قيود إلا القانون، ودون رقيب إلا الضمير الوطني.
أقول بصراحة إننا لم نعد في مجال مقايضة بين الاستقرار وحرية الرأي.
ولسنا نشتري الطمأنينة بثمن حرية الصحافة.
وأقول إن هذا الحُكم لا يبيع مستقبل الوطن في مقابل حاضر نظام.
وبنفس الصراحة أقول إن الحرية، كل الحرية للشعب، للكتلة الوطنية المنضوية تحت لواء الثلاثين من يونيو، ولا حرية لأعداء الشعب الذين ينشرون الخراب، ويسفكون الدماء، ويقتلون أبناءنا، ويسممون عقول النشء والشباب.
إن حرية الرأي والتعبير درع، وحرية الإعلام سلاح، ولا يمكن لدولة عاقلة أن تفرط في درعها وسيفها، وتسلمهما في غفلة لمن يريد أن يقوض ركائزها ويهدم دعائمها.
لا حرية لأعداء الحرية.
فالإصلاح السياسي ليس - ولا ينبغي أن يكون- قنطرة عبور يتسلل منها سجناء جماعة الإخوان من المستتابين أو التقياويين إلى الحياة العامة.
ولا يجب أن يظن أحد أن الحديث عن الإصلاح هو استعارة مكنية عن المصالحة مع أعداء الوطن، أعداء الشعب، أعداء الحرية، المنتمين للجماعة الإرهابية.
< < <
الخطوة التالية على طريق الإصلاح السياسي هى تهيئة البنية التشريعية للاستحقاقات الدستورية الديمقراطية.
في مطلع الشهر المقبل، ينعقد مجلس النواب في دورته البرلمانية الخامسة والأخيرة فى هذا الفصل التشريعي الأول.
وربما في مستهل هذه الدورة يؤدى رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ورئيسا الهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام اليمين أمام البرلمان، بعد صدور القرار الجمهوري بتشكيل هذه الكيانات الثلاثة نفاذا لتعديلات القوانين الخاصة بها.
ولعلنا نتعشم خيراً في أداء إعلامي مختلف يدفع بالإصلاح قدماً ولا يعرقل تحركه ولا أقول يجرجره إلى الوراء..!
أمامنا في الدورة البرلمانية المقبلة مناقشة وإقرار التشريعات الخاصة بتقسيم الدوائر وممارسة الحقوق السياسية وانتخابات مجلس الشيوخ وكذلك تعديلات قانون مجلس النواب وقانون المحليات الجديد، بجانب تشريعات أخرى مكملة للدستور.
وليس سراً أن مجلس النواب سوف يدعو إلى جلسات استماع مع ممثلي المجتمع المدني والقوى السياسية والأحزاب في حوار مجتمعي للتوافق على هذه الإصلاحات التشريعية، على النحو الذي جرى عند مناقشة التعديلات الدستورية.
وفيما يتعلق بانتخابات مجلس الشيوخ هناك رأيان:
- الرأي الأول وهو المفضل حتى الآن، ويدعو إلى إجراء انتخابات مجلسي النواب والشيوخ معاً في وقت واحد، توفيرا للجهود والنفقات وسعياً لحشد أكبر عدد من الناخبين أمام اللجان ممن سيتدفقون لاختيار نواب دوائرهم من أعضاء المجلسين، ووفقا لهذا الرأي سيتم فتح الترشح في أول أكتوبر، والتصويت في نهاية نوفمبر، وستعقد الجلسة المشتركة للمجلسين في النصف الأول من ديسمبر 2020، في مبنى البرلمان الجديد بالعاصمة الإدارية.
- الرأي الثاني، ويدعو إلى إجراء انتخابات مجلس الشيوخ، فور إقرار مشروع قانون انتخابات المجلس، ربما في موعد مبكر من العام الجديد.
وأغلب الظن أن انتخابات المجالس المحلية سوف تتم في عام 2021 بعد الانتهاء من قانون المحليات، وهو احد أهم التشريعات في الإصلاح الاقتصادي والإداري والسياسي والاجتماعي، بعدما تكون الدولة والقوى السياسية والأحزاب قد فرغت من انتخابات البرلمان بمجلسيه.
< < <
من الآن، وحتى منتصف العام المقبل، أي قبيل حلول العطلة البرلمانية الأخيرة لمجلس النواب الحالي، أتوقع انفتاحاً أوسع للنوافذ الإعلامية في ظل ممارسة أنضج للعمل الإعلامي، مع وضع ضوابط واقعية لفوضى التعبير الإلكتروني، أتوقع تقدم أصحاب الاختصاص والخبرة والدم الشاب من رجال ثورة 30 يونيو.
أتوقع نشوء مستوى سياسي لا مكارثي، يحصر العداء في زاوية الإخوان وحلفائهم، ولا يفتش عن خصوم غير موجودين في صفوف كتلة الثلاثين من يونيو.
أتوقع مشاركة بالرأي والأفكار من جانب الكتاب وكبار المثقفين والصحفيين في قضية الإصلاح السياسي، سعياً للوصول إلى الصيغة الأنسب التي ترسم لنا العبور الآمن للانتقالية الثالثة.
انتظر من الأحزاب، مبادأة بالتقارب والحوار، تشجع القيادة السياسية على تجديد دعوتها لها بالتكتل والاندماج.
وأترقب مبادرة من الرئيس عبدالفتاح السيسي، القائد الذي أوقن أن الإصلاح السياسي لن يتحقق إلا على يديه، وأن الانتقالية الثالثة لن نجتازها إلا في ظل قيادته.
مرة أخرى.. أشعر بالتفاؤل، فعندي خليط من تطلعات وأمنيات، وإشارات، ومعلومات..
والحديث يطول..
نقلا عن أخبار اليوم