طارق الشناوي
فى مكالمة تليفونية على سبيل الفضفضة ليس أكثر، ولهذا فلن أذكر أسماء، قالت لى الفنانة الكبيرة: أنت تقترب فى العديد من مقالاتك الأخيرة من سلك عريان عندما تطالب بزيادة مساحة الحرية، يجب أن تفكر ألف مرة حتى لا تصعقك الكهرباء، وأضافت: أنا أختلف معك فى أغلب ما كتبت، لازم نتحمل شوية، عشنا فى مرحلة فوضى إعلامية هددت أمن الوطن والمواطن، فكان ينبغى أن نسارع باختيار الهدف الأول، وهو تحقيق الأمان، وبعدها نتحدث عن الحرية، لا تنسى أننا كنا نعيش فى صخب مزعج ومقلق، على المستوى الدرامى والبرامجى، لا تُواجَه سوى بقبضة حازمة، البديل لاستمرار تلك الفوضى مرعب.
قلت لها: عندما أدافع عن الحرية أرفض أن يتصور البعض أن الوجه الآخر لها هو شرعنة الفوضى، تماما مثلما أقف ضد مصادرة أغانى المهرجانات، وهذا لا يعنى إطلاقا الدفاع عن الإسفاف، هذا النوع من الغناء يجب أن يخضع للتقنين والغربلة وليس المصادرة، الناس تقبلت فى الأربعينيات مونولوج محمود شكوكو، تأليف حسين السيد، وتلحين عبدالوهاب (يا جارحة القلب بإزازة/ لماذا الظلم ده لماذا؟)، صورة غنائية فرضت نفسها بهذه المفردات، نفس الشاعر والملحن قدما معا فى سياق آخر (الدنيا غنوة)، وبصوت ليلى مراد (ياللى تقول الآه.. آه منك).
لكل مقام مقال، ما نتابعه يضع كل المفردات المتداولة مباشرة، وبعيدا عن سياقها، فى مصفاة اسمها الأخلاق، هناك من يعبر الخط الفاصل بين الضبط والربط وينتقل إلى الكبت، لو راجعت المعايير والأكواد التى أصدرها مؤخرا المجلس الأعلى للإعلام سنجدها ترجح كفة التقييد والمنع والشجب، بعد أن تضع غطاء من السكر اسمه الحفاظ على قيم المجتمع، الفوضى التى تابعناها كان من المهم قطعا لصالح الوطن التصدى لها وبقوة، لأنها تشكل خطرا داهما، وأضفت: هناك خط فاصل بين الضبط والربط يبعده تماما عن المصادرة، بينما العديد من الممارسات التى تطبقها الأجهزة المعنية تؤكد أنهم لم يدركوا الفارق.
المطلوب شىء من الأوكسجين النقى حتى يتنفس الناس، كل الناس، يكفى أنك تحب هذا الوطن وبعدها نختلف فى وسائل التعبير عن الحب.
نلحظ بوضوح فى السنوات الأخيرة هذا الفصل الحاد بين ما يتابعه الناس فى الفضائيات المصرية، وما يتم تداوله عبر (السوشيال ميديا)، تلك هى المسافة المزعجة حقا، عندما نكتشف أن عجلة القيادة الإعلامية انتقلت للفيسبوك وتويتر وغيرهما من التطبيقات، والتى بطبعها تميل للانفلات اللفظى، والتطرف فى المشاعر، والبحث عن الإفيه اللاذع لتحقيق أكبر عدد من (اللايكات)، والتباهى فى نهاية اليوم بتحقيق التريند الأكبر ليصبح (نمبر وان).
انصرف الناس عن (الميديا) الرسمية، لأنهم لاحظوا زيادة قائمة الممنوعات والممنوعين، العالم يزداد انفتاحا، والأبواب تُفتح على مصاريعها، بينما نحن لا نكتفى حتى بأننا نواربها، ولكن نغلقها تماما.
وأعدت عليها المشهد الشهير الساخر لسهير البابلى فى مسرحية (ع الرصيف) عن بقائنا فى عنق الزجاجة، وضرورة أن نتحمل جميعا لنبقى فى قعر الزجاجة، وأنهت سهير الحوار قائلة إنهم وضعوا (الفلة) على فوهة الزجاجة ونسيوها، قلت لها وأنا أنهى المكالمة: علينا أن نرفع معا (الفلة)، قالت لى: بالعكس علينا الآن أن نُحكم تماما إغلاق الغطاء فوق الفلة!!.
نقلا عن المصرى اليوم