نوال السعداوي
شهوة العقل إلى المعرفة هى أعنف شهوات الإنسان، رجلا كان أو امرأة، وهى تفوق الشهوة إلى الطعام أو الجنس. وهذا هو السبب أن الإنسان وحده دون سائر المخلوقات كلها يمكن أن يضحى بطعامه وشرابه ومتعته الجنسية، بل بحياته كلها، من أجل إرضاء عقله وفكره. إن قصص هؤلاء النساء والرجال الذين ماتوا واستشهدوا فى الزنازين لفترات طويلة بدون طعام أو شراب أو جنس هى دلائل على مدى عظمة العقل الإنسانى الذى يفضل شهوة المعرفة لخلق حياة أكثر عدلا، حتى لو كان الثمن حياته.
ومأساة المرأة منذ زمن العبودية وحتى الرأسمالية الحديثة هى أن عقل المرأة قد حُرم من شهوته الطبيعية للمعرفة، والخلق، والإبداع، والتفكير الحر، من أجل توفير الأكل والشرب والراحة والنظافة والخدمة للرجل فى البيت،حتى يفكر، ويبدع، ويتفلسف. حتى الرواد من النساء والرجال الذين نادوا بحق المرأة فى التعليم، والعمل، خارج البيت الذكورى، لم يعتبروا أن عملها، وتعليمها، ضرورتين لتحقيق إنسانيتها، وشرفها، وكرامتها كإنسان، مثلما هو الحال مع تعليم وعمل الرجل.
وإنما طالبوا بتعليمها وعملها، حتى تتقن دورها الأساسى أكثر، وهو دور الزوجة ودور الأم. وحتى اليوم، لا يساوى المجتمع بين المرأة والرجل، فى نظرته إلى التعليم والعمل. والدليل على ذلك أننا نشترط على المرأة العمل لو استطاعت «التوفيق بين البيت والعمل. أما الرجل فهو يعمل فى كل الأحوال، ولا أحد يسأله هل يستطيع التوفيق بين بيته وعمله. ويصل الأمر بكثير من النساء والرجال الذين يعتبرون أن خدمة بيت الزوجية وظيفة أساسية للمرأة أن يعتبروا النظافة والغسيل والطبيخ- أعمالا عظيمة لا تقل عظمة عن الخلق الفنى، والتفكير المبدع. ويذهب البعض إلى أن الأنوثة الطبيعية تجد فى مثل هذه الأعمال سعادة، ولذة، وتحقيقا للذات، مثلما يسعد ويستلذ ويحقق ذاته العالم، والموسيقار، والأديب، والفيلسوف.
حب النظافة، هكذا يقولون، فطرة الأنوثة. وقد تصبح المرأة، طبيبة، أو مهندسة، أو وزيرة، أو أستاذة جامعية، لكنها حين تعود إلى البيت تمسك بالمكنسة لتنظف البيت. وما زال البعض من الرجال يعتبرون أن عمل المرأة خارج البيت يؤدى بها الى الانحلال الأخلاقى. إذن بقاؤها فى البيت سترة لها وحماية لأخلاقها، وشرفها الذكورى الذى هو شرف الرجل، الزوج، أو أى ذكر فى الأسرة، والعائلة، وأيضا حفاظا على أنوثتها الناعمة الرقيقة. لقد نسى هؤلاء الرجال أن الأغلبية الساحقة من نساء مجتمعاتنا يخرجن فجر كل يوم للعمل فى الحقول، ولم أسمع أن واحدا من هؤلاء المدافعين عن الأنوثة، والشرف، قد عارض خروج الفلاحات إلى الحقول. فهل العمل فى الحقول، فى نظرهم، يتفق مع الأنوثة، والشرف، وطبيعة المرأة؟ هل الخروج إلى الحقل مختلف عن الخروج إلى المصنع أو المكتب أو الجامعة أو المستشفى، أم أنهم يتصورون أن أنوثة المرأة الفلاحة فى القرى غير أنوثة المرأة الطبيبة فى المدن؟! إن حقيقة الأمر ليست أن الرجل يدافع عن أخلاق وشرف وأنوثة المرأة، لكنه يخاف على نفسه من أمرين أساسين هما:
1- استقلال المرأة الاقتصادى بعيدا عنه. 2- تفتح عقل المرأة لشهوة المعرفة، فخروج ملايين الفلاحات إلى الحقل يوميا على مدى الزمان لم يحقق لهن أبدا الاستقلال الاقتصادى عن الرجل أو الزوج. فالفلاحة تعمل فى الحقل، أو هكذا أغلبية الفلاحات، بدون أجر، فهى تعمل لحساب زوجها رب الأسرة، أو لحساب أبيها أو أخيها أو أى ذكر فى العائلة، كذلك عمل المرأة داخل البيت من كنس وتنظيف وطبيخ هو عمل بدون أجر. كل هذه الأعمال اليدوية والجسدية هى أعمال أو أنشطة لا تفتح شهوة العقل إلى المعرفة، بقدر ما ترهق، ومع مرور الوقت تصبح تكرارًا رتيبا، كما عمل الآلات، يبعث على الملل، والكآبة. وهى لا تعطى العقل فرصة للتفكير الحر، ولا دافعا للخلق والإبداع.
ولا يختلف أحد على أن الاستقلال الاقتصادى، هو أول خطوة تجاه الإنسانية السليمة. جميع النظريات العلمية تدل على أن الصفات التى نطلق عليها الصفات الطبيعية للمرأة، أو الرجل ليست إلا صفات مكتسبة من البيئة، والتربية، ودور الشخص فى المجتمع. فالرجل الذى يفرض عليه الفقر أن يكون كناسا أو جامعا للقمامة يصبح مع مرور السنوات أقل قدرة على التفكير الحر المبدع، من الرجل الذى يعمل فى مجال البحث العلمى. والمرأة التى يُفرض عليها مكنسة التنظيف، تصبح أقل قدرة على إعمال عقلها من المرأة الأستاذة فى الجامعة. إن قضية تحرير المرأة لن تحدث فى يوم وليلة، أو فى عقدين من الزمان. هى قضية كبرى تتطلب جهودا كثيرة من النساء والرجال معا. وقضية تحرير المرأة ليست معركة ضد الرجل كما يحاول البعض سهوا، أو عمدا تصويرها. هى معركة ضد الأفكار المتخلفة وأفكار استعباد البشر، سواء حمل هذه الأفكار رجال أو نساء.
نقلا عن المصرى اليوم