مفيد فوزي
■ عزيزتى حنان مفيد: لأن الفضفضة معك حزام أمان وخيمة طمأنينة، اخترتكِ أكتب لك هذه الرسائل لأنكِ مازلتِ فى عينى الطفلة بضفاير التى علمتها الأدب بنظرة عين، كان يكفى أن تكون لغة العيون هى الحاكمة، وربما لم أعاقبك بقسوة إلا حين كنتِ طفلة وقادك فضولك إلى فيشة الكهرباء التى امتدت أصابعك لها. وهنا تملكنى الغضب والهلع، وظنى أنك منذ تلك اللحظة صار تعاملك مع كل ما يمت بصلة للكهرباء بحذر بالغ وخوف غريزى.
ما جرى يطلق عليه فرسان العلوم الإنسانية، علم النفس والفلسفة، وصف «تجربة». وبالمنطق نكتشف أننا مجموعة تجارب على مر العمر نتيجة «اشتباك» بالحياة. وبالإدراك والرشد نميز بين الخطأ والصواب، ونفهم الفرق بين تجربة مفيدة وتجربة ضارة، فالتجربة مفتاح فهم وقياس درجة الإرادة الإنسانية، والدليل أنى لم أدخن طول العمر ولا جربت الشيشة إلا مرة واحدة وكاد صدرى ينخلع من قفصه بعد النفس الأول! والدليل أننى كنت أملك إرادة فولاذية يوم لعبت مرة واحدة- على سبيل الفضول والتجربة- فى كازينو قمار فى استنابول منذ أعوام بعيدة، وكسبت ثم توقفت وذُهل من حولى لتلك الإرادة المبكرة فقد كنت فى فجر اشتغالى بالصحافة وكان من الممكن أن يغرينى المكسب بمحاولات أخرى لولا أن صوت الكاتب القدير محمد زكى عبدالقادر كان فى رأسى وهو يقول: «إن المقامر يقامر بكل شىء، بماله وصحته وقلبه وحياته العائلية»، ولما كنت أعرف حالات دمار عائلية بسبب القمار فقد كان التحذير الداخلى أكبر من الإغراء وعودة التجربة.
نعم- يا حنان- إن تجاربنا تعلمنا، فهى المعلم أكثر من الكتب المقدسة التى تسلحنا بالإرادة والرشد وصحيح السلوك، فهذه أبجديات الدين وثوابته، ولكن التجارب تتعامل مع الحياة. إن كتب الدين المقدسة ليست كتباً ميتة ولكنها وصايا تأخذ فاعليتها من الإيمان بها، ولكن للإرادة الإنسانية دورها. لقد رأيت المدمن للمخدرات قد ذهب الكيف بعقله فظللت أكرهها طول حياتى. من هنا أملك أن أقول إننا بالتأمل والتدريب نصل إلى حالة «الفهم»، والفهم مفتاح إدراك كافة الأمور، من هنا لابد من الإصغاء لهذا القول المأثور: «ليست هناك معرفة دون معلم».
إن المعلم هنا ربما كان التجربة وليس النصح الشفوى على أى حال. لقد درست- يا حنان- علم النفس وتخرجت فى ذات القسم، وتعرفين معنى السلوك الإنسانى. تدركين أن التدريب هو آلية اكتشاف المهارات الشخصية، فلاعب الكرة العالمى ميسى هو نتاج تدريب مستمر. وأوبرا وينفرى هى عصارة تجارب وتدريبات مستمرة من خلال ممارسة، وأم كلثوم الكبيرة مرت بسلسلة تدريب واختبارات من أول الشيخ أبوالعلا إلى رياض السنباطى، وشيكابالا نجم الزمالك هو نجم عالمى مشتبك حتى لو كان يلعب فى ناد محلى، هنا نتأكد أن التدرب والتجريب يضخان المهارة والأفق البعيد والاسم الرنان، إن كل ما نتقبله من خلال الحواس يتحول إلى صيغ حيوية تصبح غذاءً للجسم المادى الذى يشتبك مع حياتنا سلباً أو إيجاباً!
■ عزيزتى حنان مفيد
تعلمنا الحياة ما لا نعلمه، وتعطينا دروساً مجانية شريطة الإصغاء الكامل للدرس المستفاد، أنت تستطيع أن تراقب نفسك فإذا كنت لا تنام ٨ ساعات على الأقل فلا تصدر قراراً فى أمور مصيرية. وإذا كنت من نوعية بشر «يتوتر بسرعة» فالمقاومة هى النجاة مما يترتب على هذا التوتر من أخطاء، فالمتوتر ضعيف النظر للحظة القادمة، وعلينا فى هذه الحياة ألا نكون بصحبة أشخاص نصف أوزانهم توتر. وإذا كنت شخصية «غضوبة» مثلى لكرامتك حين يُعتدى عليك من سلطة، فالأفضل عدم مناطحة السلطة وتمرير التصرف، لأن علم الكيمياء علمنا أن المعادلات تغير النتائج! أنا مثلاً- يا حنان- ضربتنى السلطة فى الزمان الشمولى وفصلنى من العمل بسبب مقال اعتبرته السلطة تطاولاً عليها. وأنصفنى زمان مبارك وتغير المناخ وصرت رئيساً لتحرير مطبوعة صباح الخير، وكانت السنون مليئة بنجاحات أعيش على أثرها إلى الآن، هنا تبرز نقطة تهتمين بها كثيراً وأنا أشاركك الاهتمام وهى نحن نسبح فى هذا الكون بمشيئة الله، كل خطواتنا ليست صدفة كما ترددين يا حنان. كل خطوة تتم بهذه المشيئة. ويوم خرج وزير دفاع زمن الإخوان عبدالفتاح السيسى على الإخوان، كان «سيناريو إلهى». ويوم أطفأ السيسى حلم الإخوان لحكم مصر كان ينفذ مشيئة الله. صحيح أننا نتحرك وسط وحسب نظام كونى دقيق لا مكان فيه لصدفة ولكن تعال نعطِ مساحة للتأمل! ماذا لو أغضبنى هذا النظام وأعطى الشباب- فقط- تورتة العمل العام وقام بتهميش القامات إلا من مناسبات متفرقة لإثبات العكس؟ إن موقفى سيكون الغضب من «منصة وطنية» لأن هذا الزمن اتصف بإنصاف من همشتهم الأنظمة السابقة، وإذا كان «إعلام هذه المرحلة» هو مجرد مناصب عالية المقام لها الاحترام والتبجيل وليس فى حوزتها مهام مهنية واحترافية، وهل يعتمد إعلام مصر على قليلى التجربة محدودى الخيال فاقدى المهنية لمجرد أنها وجوه جديدة فقط ليس لها رصيد، وتحويل الأسماء الإعلامية كبيرة التجربة إلى خيل البلدية؟
كيف أستقبل الصورة؟! بغضب وأمل، غضب من عدم الثقة فى الخبرات وغضب فى سد خانة البرامج السياسية التى ترفع سقف وعى المواطن المصرى الذى سوف يختار نواب مجلس الشيوخ القادم، وتحويل مجرى تفكيره وتركيزه حول الكرة وسنينها ومشاكل مجتمع سئم الناس من تكرار مشاهدته وحوارات كراسى النجوم!! أما الأمل فهو «ملف الإعلام» أمام الرئيس وعودة المهنية والاحترافية، وفى مصر طاقات وأسماء يمكن أن تعيد للشاشة بريقها بشرط ألا تتحكم الإعلانات فى مقدرات إعلام هذا البلد، الجيش الثالث بعد القوات المسلحة والشرطة الذى تحارب به مصر. أنتظر مشيئة الله فى عودة إعلام مصر إلى رتبة عالية فقد كان فى فترات أخرى فاعلاً ومؤثراً أكثر.
لم يكن من الطبيعى- يا حنان- وأنتِ تمسكين بقلم ساخر وطنى عاشق لتراب مصر، أن نعبر فى منطقة التجربة والتعلم والتدريب والخبرات المتراكمة، حال الإعلام، مدركاً أنكِ لن تكررى تجربة جديدة على الشاشة مكتفية بحواراتنا معاً على شاشة موبايل هو الأمل فى الغد. فليس فى حديثى لك شبهة التمسح فى السلطة أو التطبيل لها، خصوصاً أن السلطة لها أنف حساس تصله رائحة النفاق من بُعد ويدركها!
■ عزيزتى حنان مفيد
تعلمت فى زمن نضحى بالعمر والتجربة شيئاً مهماً اسمه «النظرة الكلية»، ومغزاها أنه لا ينبغى لى أن أنظر لما يجرى فى البلد بنظرات أحادية وإلا وقعت فى مطب الشخصانية وهى آفة كل مكان وزمان، وأسهل اتهام يوجه إليك! فأنا مثلاً لست متكالباً على العمل على الشاشة رغم أن «عدستى» التليفزيونية رحبة وتدرك أهمية العمل الوطنى دون إشارات ومقدمات وموتوسيكلات. تدرك أنه «انتماء» عميق يبدأ بالوقوف وراء حاكم جسور كسب ثقة العالم فى التعامل والتفاعل معه، إلى الوقوف فى وجه إشاعة مجتزئة الكلام بقصد الإساءة مروراً بالوعى فى فهم مراحل بناء بلد فى ظروف بالغة الشدة، تلك هى يا حنان فلسفة «النظرة» الكلية، ودعينى أرد على أسئلتك التى سمعتها عبر التليفون الأرضى.
١- ليس صحيحاً أن «المؤثرين» فى المجتمع هم بعض النجوم فى السينما والتليفزيون أو بعض أسماء نجوم كرة قدم. إن نفوذهم الأدبى يمس السطح. هناك فرق بين النجم آسر يسين- مع حبى واحترامى له- إذا حذرنى من الجهد فوق الطاقة ونصف سطر من د. مجدى يعقوب!!
٢- الوجوه الجديدة على شاشة التليفزيون ليست بالمستوى المطلوب ثقافة واطلاعاً وتجربة معملية وحواراً له مخالب فكرية ولكنهن يتمتعن بوجوه جميلة متشابهات فى القطعية. ولا أظن أن هذا مريح لنظام مصر بلد القوة الناعمة والفكر، بلد طه حسين والعقاد ويوسف إدريس والسنباطى وأم كلثوم وحليم وبليغ ووحيد حامد وأسامة أنور عكاشة وليلى رستم وزويل وبطرس غالى وفاتن حمامة.
٣- نجوم هذا الزمن هم محمد صلاح ومحمد صلاح ومحمد صلاح.
٤- أكثر مساحة على الشاشات هى مباريات الدورى والكأس بعد مباريات إفريقيا التى خرج منها المنتخب، والسبب كواليس لا نعلمها التف حولها ثوب غموض.
■ عزيزتى حنان مفيد: لأنك عبر الفضفضة حزام أمان وخيمة طمأنينة اخترتك. وتسأليننى ما «حدسك» للأيام القادمة؟ هل نراجع أنفسنا ونمارس نقداً ذاتياً، ونعدل أى حال مايل؟ هل ننتبه؟ وأقول لك: إن أعظم ما يفعله الرئيس فى حياة المصريين «أنه يبعث دائماً بطاقات إيجابية وتفاؤل»، إنه يبتسم دائماً، ولكن الحدس لا يمكن تفسيره علمياً، إنه شىء خارج حدود الفكر، إن الدماغ يشعر بالحدس ولا يملك أن يفسره. يمكن الإحساس بقفزة ولكن من أين تأتى؟ لا أعرف سبباً عقلانياً. ولا أستطيع أن أقيم علاقة نسب الحدس إلى التفكير. فكلاهما منفصلان..!
وبعد، هل لاحظت أنى ختمت رسائلى إليك بقضية فلسفية حول ماهية ومصدر الحدس فى عقولنا؟ لا مانع من «بعض» الإرهاق الفكرى بدلاً من التسطح بالكرة والضحالة التليفزيونية التى استولت على العقول. شىء من تشغيل المخ المضبوطة ساعته على الكرة وتحويل التوك شو إلى توك توك.
نقلا عن المصرى اليوم