محمود العلايلي
كتبت الأسبوع الماضى عن انقضاء فكرة الصراع بين الأجيال، وذلك لانتفاء مسألة إثبات الذات من ناحية، ومن ناحية أخرى أن قواعد الصراع نفسها قد تبدلت، حيث أصبح الصراع ذاتيا بين كل فرد وزمنه، سواء من جيل الإنترنت الذى يحارب معركته اليومية للعيش والتفوق بمعايير ومقاييس زمانه، أو من أجيال ما قبل الإنترنت الانتقالية الذين يصارعون أنفسهم ليلحقوا ما فاتهم من تقدم فى التكنولوجيا الرقمية، لأن الصراع أصبح على إمكانية اللحاق بالزمن والعيش فيه وليس على ما يحتويه هذا الزمن، وذلك بإتقان استخدام تلك التكنولوجيات أو حتى بادعاء ذلك!
والحقيقة أن الصراعات الثنائية بين كل جيل وما سبقه من أجيال كانت تستنزف الكثير من الجهد والطاقة من كل جيل، سواء كان بين مجموعات من الأفراد على السيطرة، أو بين تيارات الأنساق الفكرية على السيادة، ولكن بانقضاء الصراع أصبح الكل مدفوعا بعزم دوران التكنولوجيا الرقمية التى خرجت من إطار التحرك الموجه، بل صار التقدم بالنسبة للمستخدمين يمضى تلقائيا بفعل تغيير نسق التكنولوجيا الرقمية عموما، حيث أصبحت تعتمد بشكل كبير على قواعد البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعى، مما يعطى الفرصة لأى تطبيق يُستحدث أن يكون جاهزا للطرح والاستخدام فى وقت قصير للغاية، وصار التنافس بين المطورين على كيفية فهم رغبات الناس وتلبية احتياجاتهم، بالتوازى مع التطوير التكنولوجى المستمر الذى يجرى تلقائيا فى أصعدة مختلفة على مدار الساعة.
إن كل ما فات الحديث فيه كان على مستوى المستخدمين بمختلف أعمارهم وجنسياتهم وعلى تنوع توجهاتهم الفكرية والعقائدية، وقد يفهم البعض أن انقضاء الصراع وانتفاء الحاجة له ينطبق أيضا على الدول، وهو عكس الواقع تماما، فالولايات المتحدة تمتلك أغلب أساسيات التكنولوجيا الرقمية وسبل تطويرها، والأهم أنها تمتلك أهم وأكبر أسواقها من خلال شركاتها العملاقة، مثل (آبل وأمازون وفيسبوك ومايكروسوفت) فى مجالات استحداث وتطوير وتسويق التكنولوجيا الرقمية، وهو ما رضخت وتعاملت معه أغلب دول العالم، سواء المتقدم منها أو غير ذلك، إلا الصين التى أبت إلا أن تكون طرفا فاعلا فى هذا الصراع ولا تكتفى بالاستخدام والاستهلاك، اعتمادا على السوق الهائلة للشعب الصينى من ناحية، واستنادا على قاعدة علمية صلبة اتخذت من التقليد منحى على مدى زمن طويل، ثم تحولت للاختراع والابتكار الذاتى، مدفوعة بالرغبة العارمة للعملاق الصينى للدخول فى المنافسة التجارية الدولية، سواء فى الصناعات الثقيلة والمنتجات الاستهلاكية وهو ما تم إثباته، أو فى مجال التكنولوجيا الرقمية، وهو ما ظهر عندما تقدمت الصين على الولايات المتحدة فى تقديم وتسويق خدمات الـ(5 جى) التى سارع بعض حلفاء الولايات المتحدة باقتنائها، مثل المملكة المتحدة وألمانيا، مما حدا بالولايات المتحدة أن تحاول إيقاف المد الصينى بكل الطرق المتاحة، سواء بالعقوبات التجارية على شركة (هواوى) الصينية من جانب، ومن جانب آخر تخويف الحلفاء من خطر التجسس جراء استخدام التكنولوجيا الصينية.
وإذا كانت قواعد الصراع بين الأفراد قد تغيرت بتفاعلهم مع التكنولوجيا الرقمية، فإن الأمر يسرى على صراع الدول أيضا، فقد تغيرت أغلب قواعد الصراع العالمى، وصار امتلاك قواعد البيانات الضخمة وتحليلها إلى معلومات وكيفية استخدام ذلك فى تطويع أذواق الناس وتغيير ميولهم، وبالتالى سلوكهم الاجتماعى والسياسى، والتأثير على أنماط استهلاكهم وطرق إنفاقهم، بنفس القدر من الأهمية الذى تتصارع فيه الدول على الاستحواذ على الموارد الاقتصادية وتوزيعها، وامتلاك القدرات العسكرية وتوجيهها، وكما سيعيش الأفراد ميتين إذا أصروا على الحياه بمقاييس الماضى، فإن الدول ستفنى أو تتجمد إذا أصر صناع القرار على التعامل بغير معايير الحاضر والتفاعل بشروط المستقبل، والتخطيط على أساس قوانين التكنولوجيا الرقمية.
نقلا عن المصرى اليوم