بقلم :د . نوال السعداوى
أصبح هناك اتجاه جديد ، ولكنه فى الواقع قديم ، عند عدد كبير من المفكرين ، فى معظم البلاد ، وفى أغلب مجالات الحياة ، يقول : " لنتحدث عن الحب ونعطى ظهورنا للسياسة ".
منهم علماء كيمياء ، وفيزياء ، حصلوا على جوائز عالمية ،
وشخصيات سياسية مرموقة ، أيدت الحروب ، واراقة الدماء فى صراعات دولية ،
ومحلية .
هل يمكن لمنْ كسبوا ، وأثروا من سفك الدماء ، والقتل ، أن يعرفوا شيئا عن مستقبل الحب ؟. وان كانوا صادقين ، فلماذا يتبنون اتجاه " اعطاء الظهر للسياسة " ؟. ألا يعلمون أن غياب الحب فى العالم ، مرتبط بغياب العدل ، وغياب العدل من انتاج السياسة الفاسدة ؟.
هل يمكن الفصل بين ما يسمى الحب أو السعادة أو الأمن أو السلام ، وبين
القضايا السياسية الراهنة ، التى حولت كوكب الأرض الى بحر من الدماء ؟.
هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم لقب " المفكرون " بعد أن تمت احالتهم الى الصفوف الخلفية ، فى تحريك الأحداث ، بشكل مباشر ، بدأوا ينشغلون ويشغلون العالم ، بما أسموه " الحب الأسرى " ، و " تقوية الروابط العائلية " ،
و " العودة الى الأديان " ، و " الرجوع الى الروحانيات " . وأخذوا يقاومون
النزعات المادية فى سلوك الانسان الفرد ، وليس سلوك الجماعات والدول . يقولون أن مثل هذه القضايا ، تتعلق بحياة الفرد ، وعليه تقع المسئولية فى تغيير
حياته والقضاء على مشاكله . لكنهم لا يذكرون شيئا عن مسئولية أصحاب القرارات السياسية الكبرى ، التى تؤدى الى الحروب ، والخراب ، والتدمير ،
واحياء الفتن الدينية ، والتدهور الاقتصادى ، والثقافى ، والاعلامى . وحين نسألهم لماذا ؟ ، يقولون أنهم قد فقدوا الأمل فى أهل السياسة ، الذين أفسدوا العالم ، ويئسوا من قيامهم بأى اصلاحات جوهرية . لذلك هم يعتنقون مبدأ : " العمل من أجل الحب بعيدا عن السياسة ". أى خداع هذا ؟.
يستخدم أصحاب القرارات السياسية الكبرى فى العالم ، كل شئ من أجل المزيد من تدعيم المبادئ الاستعمارية القديمة . لقد تحولت الاكتشافات الكيميائية
والذرية والنووية والتكنولوجية ، الى وسائل للقتل الجسدى ، أو النفسى ، أو الاقتصادى ، بدلا من أن تخدم تحقيق السعادة ، والتعاون ، والراحة ، والأمان ،
لقد أنشأ " نوبل " جائزته ، بعد أن رأى كيف تحول الديناميت الى سلاح عسكرى مدمر . فهل غيرت جائزته شيئا من النظام السياسى الفاسد ؟.
فى وسط الذعر من المزيد من الفقر ، والموت الجماعى ، والارهاب الدينى الدموى ، وموجات التهجير ، والبطالة ، والتعاسة الزوجية ، والاكتئاب المتزايد ،
والقلق ، والملل ، وانتشار المخدرات ، والميول الانتحارية ، والعنف داخل الأسرة وخارجها فى الاعلام ، والفن ، وظهور أمراض جديدة بسبب التلوث .
هل يمكن أن نستمتع بالحب ، كأنما هو شئ يحدث فوق سطح القمر ، أو فوق سطح المريخ ، دون حاجة الى مسكن ، وملبس ، ودواء ، وعمل ، وطعام خال من السموم ، وتعليم بدون عنصرية ، واعلام بدون تضليل وخرافات وعنف .
انه نوع من الخداع الاعلامى والثقافى ، يحاول اعفاء أصحاب القرارات السياسية الكبرى المؤثرة على مصير العالم ، من المسئولية السياسية ،
والأخلاقية . كيف ندير ظهورنا للجانى ، ونواجه الضحية وحدها ؟.
ان الانسان لا يعيش بالخبز فقط . لكنه لا يعيش أيضا بالعاطفة ، أو الحب فقط ، دون تلبية الاحتياجات الاقتصادية والمادية ، فى حدودها الدنيا اللائقة بكرامة الانسان . هذه ألف باء الحياة الانسانية السليمة ، وبديهيات الفكر العادل ، التى ترى الصورة كاملة ، دون تحيزات ، ومصالح سياسية محددة سلفا .
ما نحتاجه هو القدرة على الربط بين المجالات المختلفة فى الحياة ،
وعلى رأسها السياسة .
لا يمكن استبعاد السياسة ، من أى بحث علمى ، أو
أدبى ، أو كيميائى ، أو طبى ، أو فنى ، أو أخلاقى .
وهؤلاء العلماء ، والمفكرون ، والفلاسفة ، الذين ادعوا الحياد السياسى ، لم يكونوا محايدين . بل كانوا مشاركين فى حدوث الجرائم ، والحروب . يقولون :
" نحن التزمنا الصمت حتى لا نتورط " . منْ قال أن الصمت عدم مشاركة ؟. منْ
قال أن الصمت يعفى من المسئولية ؟. ان ادارة ظهورنا لمقترفى الجرائم ، هو مشاركة فى الجريمة معهم .
مع تزايد الفساد ، تزايدت الدعوة الى القيم الأسرية الأصيلة القديمة .
حيث كانت الأم ، متفرغة لاعطاء الحب ، والحنان ، لزوجها وأطفالها . يحدث هذا فى الغرب وفى الشرق على حد سواء .
أصبح الاتجاه هو تحميل المرأة مسئولية الفساد ، لأنها تخرج الى العمل ، أو لأنها لا تغطى شعرها ، وذراعيها ، أو لأنها غير مختنة .
يحدث هذا بسبب الفصل بين القضايا الخاصة والقضايا العامة . وأدى التخصص الدقيق فى العلوم ، الى انتاج أشخاص يتمتعون بالمهارة والبراعة ،
كل فى غرف مستقلة معزولة ، عاجزون عن الربط بين الظواهر المختلفة .
بالعواطف ، فلا يجب أن نتوقع البيوت الممتلئة بالحب ، والعواطف ، والترابط الأسرى .