بقلم : فاروق عطية
لم يكن هجوم جيوش الأتراك (العثمانيون) على مصر واقتحامها سنة 1517م بقيادة سليم شاه (سليم الأول) إبان حكم السلطان الغوري لكي يخلصونها من عسف وجور المماليك البرجية (الجراكسة)، فلم يكن الاتراك غرباء على مصر فهم موجودين فى مصر منذ عهد الدولة الطولونية.
قبل دخول العثمانيون حدود مصر كانوا قد غزوا بلاد الشام التي كانت ضمن أراضي الامبراطورية المملوكية المصرية، مما دعا جيش مصر بقيادة السلطان الغوري التحرك إلى الشام للتصدي لهذا الغزو وحارب ببسالة ولكنه هزم في معركة مرج دابق بسبب خيانة الأمير المملوكي خاير بك في 24 أغسطس 1516م. اصيب السلطان الغورى بصدمه قضت عليه فوقع من على حصانه واختفى. وتقدمت الجيوش العثمانليه الغازية و اقتحمت حدود مصر، حاول السلطان الأشرف طومان باى الذي خلف السلطان الغوري التصدي لهم رغم تشتت الجيش المصري بعد معركة مرج دابق وأصبح غير كاف للصمود، وانهزم طومان باي في معركة الريدانية رغم أنه حارب ببسالة وبطولة ملحمية، فلم يستسلم وظلت الحرب سجالا بينه وبين السلطان العثمانى سليم الأول، حتى انتهت بهزيمة طومان باى الذى فر متجها إلى الشمال نحو «تروجه بالبحيرة» فى ضيعة تسمى «البوطة» ليحتمى عند الشيخ العربان «حسن بن مرعى»، بعد أن أقسم له على أن يحميه وألا يغدر به، قام بتسليمه إلى السلطان سليم الأول وتم القبض عليه بتلك الخيانة وأعدم وعُلق جثمانه على باب زويلة، بذلك زالت سلطة المماليك التي دامت 267 عاما.
دخل العثمانيون مصر واحتلوا القاهرة في 26 يناير 1517م، وتحولت مصر من دولة مستقله لولاية عثمانية يحكمها السلطان العثماني من استنبول عن طريق نائب له (والي) يقيم بقلعة الجبل بالقاهرة، ودخلت مصر في عصر جديد من الاحتلال الأجنبي بحجة انقاذها من حكم المماليك الجراكسة الفاسدين.
ذكر عبدالله بن رضوان فى كتابه تاريخ مصر (مخطوط رقم 4971) بمكتبة بايزيد فى استانبول، إن علماء مصر (وهم ممثلوا الشعب المصري) كانوا يلتقون سرّاً بكل سفير عثماني يأتي الى مصر، ويقصّون عليه (شكواهم الشريف) و (يستنهضون عدالة السلطان العثماني) لكي يأتي ويأخذ مصرـ ويطرد منها الجراكسة.
عدد ولاة العثمانيين الذين حكموا مصر من بداية الاحتلال العثماني حتي الحملة الفرنسية كان 136 واليا، أولهم خاير بك الذي عينه السلطان سليم الاول كمكافأة له على خيانته للسلطان الغورى فى معركة مرج دابق و أطلق عليه "خاين بك"، و اخرهم كان سيد باشا ابو بكر الطرابلسى (بكير) الذى عينه السلطان سليم خان الثالث، وكان الوالي يعين بفرمان من السلطان العثمانى بالأسيتانة ويطلق عليه والي مصر أو باشا مصر.
عقب الاحتلال العثماني لمصر لم ينج فلاح واحد من ظلم العثمانيين. من خلف الستار تولت الفرق العثمانية الحكم في الأقاليم المصرية، وكان أبرزها السباهية (الخيالة) التي أطلقها العثامنة على القرى لتأخذ من الفلاح كل ما تستطيع أن تجنيه من أموال، وحين فرغت جيوبه انتزعوا أبواب وشبابيك بيته، وصادروا ماشيته وأغنامه، ليسود الفقر البلاد وينتشر الظلم في الأقاليم المصرية. كانت السباهية أكبر الفرق التي سمح لها السلطان سليم ومن بعده ولده سليمان بفرض الضرائب والإتاوات التي أثقلت كاهل الفلاحين وقلبت حياتهم إلى جحيم لم يستطيعوا التخلص منه.
بعد استيلاء العثمانيون علي مصر نقلوا الخليفة العباسي المتوكل على الله وعائلته من القاهرة إلي استنبول، الذي تنازل عن الخلافة للسلطان سليم الأول وسلّمه الآثار النبوية الشريفة رمز الخلافة وهي "البيرق والسيف والبردة" ومفاتيح الحرمين الشريفين للحفظ باستنبول التي أصبحت مقر الخلافة وأصبح السلطان العثماني أمير المؤمنين وخليفة المسلمين رسميا.
ترك سليم الأول حين مغادرته مصر لخاين بك (خاير بك) من الخيالة 5000 ومن البندقجية 500، وكانت الطوائف المتواجدة بمصر تشمل الجراكسة والاصبهانية والكمولية الذين تنافسوا وتصارعوا علي نهب مصر وابتزاز المصريين وامتصاص جهدهم وكدهم. كان بمصر أيضا من قبل الاحتلال العثماني عصابات العربان الذين تخصصوا في عمليات السطو المسلح والاعتداء علي القرى وقطع الطرق على الفلاحينن المصريين بزعامة شيخهم عبد الدايم بن بقر شيخ العربان. انتهزت عصابة العربان فرصة دخول العثمانيون مصر واضطراب الأوضاع فيها فزادوا من هجماتهم وخرّبوا ونهبوا غالبية قري الشرقية.
كان الغزاة يعلمون مدي تأثير مصر علي جيرانها وجبروتها في الحروب حين تكون قوية وقد خبروا ذلك مرارا فلم ينتصروا عليها إلا بالخيانة، فعملوا علي إضعافها وإضعاف ما تبقي من مماليكها حتي تظل تابعة للأسيتانة العثمانية. بعد تحول مصر من دولة مملوكية إلى ولاية تتبع الإمبراطورية العثمانية تبدلت أوضاع الحكم التى اعتادها المصريون، حيث كان العثمانيون يغيرون الولاة بصفة مستمرة، ويجعلون ولاية القائمين عليها قصيرة، مما أثر بالسلب على أدائهم فى رعاية مصالح البلاد والرعية، كما ابتكروا لها نظام حكم غريب حيث جزأوا مراكز القوى. وضعوا على قمة هرم الحكم والادارة والي وهو نائب يحكم باسم السلطان التركي، وأهم مهماته كانت تبليغ اوامر الأسيتانة للحكومة والشعب المصري، يلي الوالي أنشأوا "الوجقات" التي كانت عباره عن فرق عسكريه قوامها 6000 من الفرسان(السباهية) و 6000 من المشاة تتمركز فى القاهره و المناطق المهمه تحت قيادة باشا عثمانلى مقيم فى قلعة القاهرة وكانت مهماته ألا يغادر القلعة والمحافظة على النظام في مصر وجمع الضرائب وارسالها للأسيتانة.
كانت الوجقات مرتبه على خمس نوعيات: وجاق المتفرقه وهي كانت نخبة حرس السلطان، ووجاق الجاويشية وكانوا اصلاً ظباط فى جيش سليم الاول و مهمتهم كانت جمع الضرائب من المصريين، ووجاق الهجانة راكبي الجمال، ووجاق التفقجيه وكانت مهمتهم نقل الاسلحه، ووجاق الإنكشارية وكانوا خليط من قبائل العربان الخاضعين للعثمانلية، والوجاق السابع كان وجاق الجراكسة وهم بقايا المماليك، ومن تلك الوجاقات السبع كانت تتكون حكومة مصر تحت الاحتلال العثمانلي.
استمرت عملية عثمنة مصر و تبديل احوالها فى كل مناحيها. فى نوفمبر 1521م وصل مندوب من السلطان العثمانى ومعه أذرع حديدية وسنج بأرطال نحاسسة، بأطوال وأوزان غير التي كان المصريون يستخدمونها، ونودي فى القاهره إن هذه الأطوال والأوزان الأسطنبولى قد حلت محل الأطوال والأوزان المصريه وإن على التجار والبائعين ان يمتثلوا للأوامر ولا يتعاملوا بغيرها، و من يخالف مرسوم الخوندكار سوف يشنق على باب حانوته، بذلك غير الأتراك نظم الأطوال و الأوزان والمكاييل فى مصر. كذلك فرضوا ضريبه على الزواج والطلاق على النسق العثمانلى، فصار الكثيرون غير قادرين على الزواج أو الطلاق. يقول ابن اياس: "صار الذى يتزوج او يطلق تقع غرامته نحو اربعة أشرفية، فإمتنع الزواج والطلاق فى تلك الأيام وبطلت سنة النكاح و الامر لله فى ذلك".
ابتدع خاير بك وظيفه جديده اسمها "مفتش الرزق الجيشيه"وعين فيها تابعا له اسمه "ابن الجاكيه" مهمته ان يراقب ويبحث فى دفاتر رجال الدوله وعامة الناس عن اقطاعات وممتلكات اخذوها بدون وجه حق، وكان الهدف بطبيعة الحال ليس إقرار العدل ولكن هو الاستيلاء على ممتلكات الناس، فحدثت مظالم كثيره واستطاع مفتش الرزق هذا ان يستولى على ممتلكات الكثير من الناس كانت لديهم أوراق ثبوتية شرعيه، يقول ابن إياس عن ذلك: "وحصل للناس منه الضرر الشامل، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم".
فى ديسمبر 1521م أنزل خاير بك زوجته خوند مصر باى من القلعه و أسكنها فى مدرسته بباب الوزير لإن زوجته ام أولاده التي كانت مقيمة فى استنبول أعادها السلطان سليمان إلى مصر فحزنت خوند مصر باى التى كان قد تزوجها فى بداية نيابته على مصر. وفى 23 ابريل 1522م وصل سنان بك وهو أمير تركي كان واليا على إنطاكيا ومن المقربين لسليم شاه أرسله السلطان سليمان إلى مصر حتي يكون عينا على خاير بك، وخرج الاخير واستقبله استقبالا حافلا عند باب البحر فى بولاق، شاقين القاهره على خيولهم وخلفهم الطبل والزمر فى موكب ارتفعت فيه الأعلام التركيه الحمراء فوق رؤوسهم.
شهد عام 1521م اعدامات كتيره أجراها خاير بك ومعظمها كانت اعدامات ظالمه، يقول ابن إياس : " وفى هذه السنة قتل ملك الأمراء من الناس ما لا يحصى عددها بتوسيط وشنق وخوزقة، وأكثرها راح ظلما"