بقلم: يوسف سيدهم
كما قلت قبلا, لست من متابعي السينما المصرية منذ أكثر من ربع قرن… وهذا ليس تنكرا لتطور حركة الفن السينمائي في حد ذاته إنما لأني في مرحلتي العمرية التي تزخر بمعايشة السينما في عقود الزمن الجميل لا أستطيع التوقف عن مقارنة الأمس باليوم, ولا مقارنة نجوم الأمس باليوم, ولا مقارنة دراما الأمس باليوم, فلا شيء من إبداع الأمس استمر عبقه في إبداع اليوم… قد يطلق البعض علي سينما اليوم تطورا أو حداثة أو مرآة المجتمع أو حرية التعبير إلي غير ذلك من الصفات, وقد يغدق البعض في مدح نجوم ونجمات سينما اليوم وكيف أنهم نماذج تحتذي للشباب, لكني مصاب بداء مقارنة كل ذلك بسينما الأمس ورسالتها الترويحية التنويرية ونجومها ونجماتها والأدوار والشخصيات التي جسدوها لينهضوا بالمجتمع ويرسخوا قيما ومثلا وأخلاقيات سامية عاشت طويلا… لكن ها هي تتآكل وتتغير اليوم لتنزلق السينما في هاوية الانفلات والعنف والجريمة وهدم قيم المجتمع… كل ذلك تحت شعارات الأكشن والجمهور عايز كده والعبرة في النجاح بما يحصده شباك التذاكر… أما المضحك المبكي فهو آخر الشعارات التي يقال لنا إنها تطلق الإبداع وهو أفلام العيد!!
لكن أكثر ما يقلقني في هذا المجال وأقف أمامه حائرا هو شخصيات أبطال وبطلات سينما اليوم ومضمون سيناريوهات وقصص أفلام اليوم وما يصدره كل ذلك من معايير جاذبة للشباب… فبينما كانت السينما دوما تحمل رسالة مرآة المجتمع ولا تستحي من كشف عيوبه وعوراته لتفنيدها ونقدها وإدانة كل معوج فيه لترسيخ القيم والمثل والآداب وإعلاء شأن القانون, إذا بها تحت ستار التطور والحداثة تكتفي بتسليط الضوء علي أحط ما في المجتمع من انفلات وفساد وجريمة وتقرن ذلك بتحقيق النجاح والثراء والإفلات من القانون غير مكترثة بمغبة الرسالة المدمرة التي ترسلها للمشاهدين وعلي الأخص الشباب والمطحونين والمعوزين والمتعطلين لترسخ لديهم قيم الرذيلة والعنف والغاية تبرر الوسيلة… والمصيبة الكارثية التي باتت ظاهرة أن من يقفون وراء تلك الأعمال يقولون: ولكننا تركنا نهاية الفيلم مفتوحة لتحرك عقل المشاهد!!!… أو يقولون: انتظرونا في النسخة التالية من الفيلم فهو لم ينته بعد!!!… وهم غير مدركين لحجم الضرر والضياع الذي ألحقوه بعقل المشاهد, ناهيك عما ستحمله النسخ التالية من استفحال ذات المعايير الهابطة.
ولا يمكن أن أنسي تجربة شخصية آلمتني كثيرا عندما تحاورت حول تلك الظاهرة مع مجموعة من الشباب والشابات في جلسة عقدها برلمان شباب وطني… إذ أثناء تحليل وتشريح ونقد بعض الأفلام التي كان لها دوي منذ نحو عشر سنوات, باغتني أحد الشباب بقوله: إننا نحاول أن نعمل بشرف ولا نجد الفرصة وعبثا نتمسك بالقيم والمثل فنحصد الحسرة ونلتزم باحترام القانون دون أي نجاح, ثم تقدم لنا السينما البطل الذي تحدي واقعه وغير حياته باللجوء للعنف وباستمراء الجريمة وباحتراف الفساد والخروج علي القانون وكانت النتيجة أنه حقق نجاحا باهرا وثراء فاحشا ونفوذا ضخما مما وفر له حصانة ضد الوقوع تحت طائلة القانون فعاش حياة مترفة وانغمس في الملذات وحصد ثمارا أكثر من رائعة لانفلاته وسلوكه المعوج… ثم في مشهد نهاية الفيلم تقوم الشرطة بمطاردة هذا البطل ويتبادل معها إطلاق النار فتقتله وينتهي الفيلم… ويستطرد هذا الشاب البريء الذي في مقتبل حياته: إنني علي أتم استعداد لأن أحذو حذو بطل هذا الفيلم وأحصد الثراء والنفوذ مثله وأعيش في الترف والملذات مثله وبعد أن أتمتع بذلك كله أموت!!!… تجمد تفكيري أمام هذا الشاب ولم أستطع أن أرد وحاولت أن أبشره بقيم العمل والكفاح والأسرة والمستقبل لكنه كان شاردا شاخصا ببصره في اتجاه آخر مستخفا بما أقول… وساعتها لعنت سينما اليوم وتحسرت علي سينما الأمس… سينما الزمن الجميل.