محمود العلايلي
صار التقدم التكنولوجى والتحول الرقمى من المسلمات، حيث لم يعد مفهوما أن هناك من لا يستخدم التكنولوجيا الرقمية أو من لا يفضل التعامل بها، لأنه من الصعوبة أن تجد شخصا لا يستخدم هاتفا ذكيا، أو لم يتعامل مع ماكينة صراف آلى، أو لم يسدد مدفوعاته بكارت ذكى أو أى نوع من التعاملات التى لا يمكننا أن نختص بها مرحلة عمرية أو طبقة اجتماعية، بل نجد التفاوت فى كم القدر من الاعتماد على الوسائل الرقمية من شخص لآخر، بحسب تمرسه واختياراته، ليصل إلى ما يسمى (IOT) أى إنترنت الأشياء، وهو ربط كل الوسائل رقميًا بداية من الهاتف الذكى إلى جهاز الكمبيوتر والمدفوعات، نهاية بأجهزة الإنارة المنزلية على سبيل المثال.
إن ما يدفعنا للاهتمام هنا هو البناء على أرضية الواقع الجديد، فى زمن تبدلت فيه طرق استحضار المعلومة، من الحاجة إلى تراكم معرفى، إلى استدعائها بكلمة تعريف وضغطة زر، والأهم من ذلك أننا يجب أن ندرك عصرنا الانتقالى لمن وُلدوا وعاشوا مرحلة ما قبل الإنترنت والتحول الرقمى، ثم مروا بجميع مراحل التطور والتطبيقات المختلفة وتعقيدها، بينما هناك أجيال فى العقد الثالث من العمر والأصغر سنا لم يروا الدنيا إلا بالإنترنت والتطبيقات الرقمية، مما يضعنا فى إشكالية شديدة التعقيد بين جيل الإنترنت وجيل سابق يحاول بعضه التوافق مع الواقع الجديد بقبوله والتفاعل معه، ويدعى قطاع منه عدم ملاءمة هذا الواقع تفكيره، وقطاع ثالث يعلن بكل تأكيد أن الواقع الرقمى يدمر العقل ويفتت العلاقات الأسرية ويقتل المشاعر، ويبادر بشكل حنينى بدعوة حثيثة لرفض الواقع والعودة فى الزمن لما قبل الإنترنت والتطبيقات الرقمية.
وتثير أساليب الأجيال الانتقالية فى مواقع السلطة على أجيال الإنترنت كثيرا من التأمل والمتابعة، سواء كانوا من دوائر صناع القرار، أو مراكز اجتماعية مثل الآباء والمدرسين والمدربين الرياضيين، حيث يمكن أن تؤدى المنطلقات المختلفة فى وسائل استحضار المعلومات وطرق التفكير إلى الوصول إلى مخرجات شديدة التباين فى كثير من الأحيان، واستحالة التوافق فى أحيان أخرى، وإن كان هذا لا ينفى أنه فى أوقات مغايرة يمكن أن يصل الطرفان إلى حالات من الاتفاق خصوصا فى الأمور العاطفية والإنسانية والفنية على سبيل المثال.
وإذا كنا نتحدث عما كان يسمى صراع الأجيال، فقد كان فى السابق صراعا بين أفكار، قديمها وحديثها، وبين ماض منغلق وحاضر أكثر انفتاحا وتقدما، وهى مسافة كانت تبتعد أو تقترب بحكم العادات والتقاليد، أو بقدر تفهم الأجيال السابقة أو بقدرة الأجيال اللاحقة على الضغط والإقناع، ولذا لا يمكننا أن نطلق على الجارى بين جيل الإنترنت ومَن قبله صراعا لأنه يفتقر لقواعده، حيث اختلاف الواقع لحدوث انقطاع شبه كامل بين هذه المرحلة وما سبقها، من حيث وسائل التفكير التى تغيرت، والتركيبة الذهنية التى أصبحت كاملة الاختلاف، وتبدلت لغة الخطاب وسبل التفاهم، والأهم فى دحض فكرة الصراع هو عدم وجود النزعة لإثبات الذات لأنها سائدة واقعيا، بل إن جيل الإنترنت صار دون قصد متجاوزا عن التناقض، غير مهتم من الأساس بإقناع من قبله، حتى حل التجاهل محل السخرية التى اتُّبعت فى بداية هذا العصر وأصبحت من مخلفاته.
إن المناداة بتواصل الأجيال أصبح من الحفريات، فإذا كنا ننادى قديما أن تتعلم الأجيال الجديدة من سابقيها، لكن الأمور قد انعكست حيث أصبحت مسؤولية الأجيال الأقدم هى اللحاق بالواقع الجديد، والتمرس على مفرداته، أو على الأقل التوافق معه، لأن العناد سيؤدى إلى المكوث فى عزلة أو العيش فى غربة، أو بعبارة أكثر دقة «أن تحيا ميتًا، أو أن تموت حيًا».
نقلا عن المصرى اليوم