عاطف بشاي
«1»
فى مقهى «المقهورون فى الأرض» الذى يضم عددا من الأصدقاء من الموظفين الذين يعانون من شظف العيش.. وغلاء الأسعار.. وأرباب المعاشات.. ومنكوبى الخلع.. والأزواج ضحايا زعيمات الحركات النسائية المناهضة للرجل الذى يعتبرنه ديناصورا منقرضا.. وفى أعقاب التصريحات التى نشرت بالصحف عن عودة «ياسر برهامى».. نائب رئيس مجلس إدارة الدعوة السلفية لإلقاء خطبة الجمعة داخل مسجد الخلفاء الراشدين بالإسكندرية بتصريح من وكيل وزارة الأوقاف.. فوجئ الأصدقاء بأحدهم «جرجس حنا ويصا» الجالس على كرسى خلفه حائط المقهى.. يلتفت بجزع إلى لا شىء، ويصرخ:
- فيه إيه؟! عاوز منى إيه؟! ابعد عنى يا أخى.
فبادره أحدهم بدهشة:
- إنت بتكلم مين يا «جرجس» أفندى؟
يكمل «جرجس» ملتاعًا:
- هو ما له وما لى!.. أنا ماعرفوش.. ولا ليا دعوه بيه.. عاوز يئذينى ليه؟!
- هو مين ده؟!
- واحد غتيت بدقن ولابس جلابية.. وصندل بصباع.. كل ما أروح فى حتة.. ألاقيه ورايا ويقول لى: جزية.. جزية.
«2»
فى منزل ويصا.. وهو يجلس إلى منضدة الطعام.. تفاجأ به زوجته وهو يصرخ ملتفتاً خلفه مخاطباً شخصاً وهمياً: - فيه إيه؟!.. حرام عليك.. إشمعنى أنا؟!.. ابعد عنى.
أنجيل زوجته تنظر إليه ذاهلة.. فاغرة فاها.. تهتف:
- مالك يا جرجس؟!
- أنا مش قلت لك إنه بيطاردنى؟! حصل ولا لأ؟!
- آه.. إنت تقصد الراجل اللى بيطلب منك الجزية على القهوة.
- مش القهوة بس.. فى الشارع وأنا جاى.. وعند الفكهانى وأنا بجيب اليوستفندى.. إشمعنى أنا.. تقدرى تقوليلى.. إشمعنى أنا؟
- اهدى يا جرجس.. إنت أعصابك تعبانة.
- ما هو طبيعى إن أعصابى تتعب.. إنتى لو مكانى ولقيتى حد بيطاردك فى كل حتة.. أعصابك تتعب ولا لأ؟!
و... تقنعه أخيراً أن يذهب إلى طبيب نفسى.
«3»
فى حجرة الكشف بعيادة الدكتور بطرس سمعان طلب منه الطبيب أن يتمدد على الشيزلونج.. وسأله:
- قول لى.. والدتك فطمتك إمتى؟!
- فى سن خمس سنين.
- كان طموحك إيه وإنت صغير؟! تبقى إيه أما تتفطم وتكبر؟
- كان نفسى أبقى ممثل.. لكن فى اختبارات القبول فى معهد الفنون المسرحية سألنى الأستاذ: قول خمسة وخمسين.. قلت خمسة وخمسين.. قال لى قول خمسة وستين.. قلت له خمسة وستين.. قال لى إنت ساقط يا جرجس.. تقدر تقولى لى سقطنى ليه؟!
(الطبيب الذى يلاحظ أن جرجس ينطق حرف السين ثاء، يردد متسائلاً مستدرجاً: تفتكر ليه يا جرجس؟
- كوثه (كوسة) بيضطهدنى علشان أنا مثيحى (مسيحى). صح يا دكتور ثمعان (سمعان)؟!
يبادره الطبيب مواجهة:
- إنت حالتك صعبة خالص يا جرجس.. وإنت صغير كرهت أمك لأنك تصورت أنها اضطهدتك، لأنها فطمتك وإنت كبير.. ولما كبرت تحولت لمريض ببارانويا الاضطهاد.. حسيت إن الدنيا كلها تضطهدك و...
جرجس يهتف مقاطعاً موضحاً:
- مش الدنيا كلها.. هى المشكلة فى الرجل اللى بيطاردنى فى كل مكان.. فى القهوة.. والشارع.. وفى الأتوبيس.. وعند الفكهانى.. أكيد ده متطوع بعته ياسر برهامى المكفراتى.. عدو الأقباط.. المحرض على الكراهية والنبذ.. وعدم قبول الآخر.. وأنا آخر.. وإنت كمان يا دكتور آخر.. وهو شعاره طبعاً.. يا إما الجزية.. يا إما الطرد من البلد.. وبيع الزوجات فى سوق الرقيق.
الطبيب يناوله روشته مردداً:
- إنت عندك بالإضافة لبارانويا الاضطهاد هلاوس سمعية وبصرية. بتشوف أشياء مش موجودة فى الواقع.. وبتسمع برضه أصوات مش موجودة فى الواقع.. الأدوية دى تاخدها بانتظام.. لكن الأهم إنك تقول لنفسك وللناس باستمرار.. وفى كل الأوقات.. من أول ما نصحى لغاية ما تنام:
«أنا مش حادفع الجزية.. أنا مش حا أدفع الجزية.. قول.. ساكت ليه؟!
جرجس يهتف بآلية:
- أنا مش حادفع الجزية.. أنا مش حادفع الجزية.
يخرج جرجس من حجرة الكشف إلى صالة الاستقبال بالعيادة؛ حيث تجلس السكرتيرة. يهتف مكررا لنفسه بصوت مسموع:
- أنا مش حادفع الجزية.. أنا مش حادفع الجزية.
- ثم يلتفت فى اتجاه السكرتيرة.. يصبح مواجهاً إياها:
- أنا مش حادفع الجزية.. أنا مش حادفع الجزية.
«4»
جرجس حنا ويصا يهتف فى كل مكان.. فى المقهى والشارع.. والكنيسة.. وفى مكان عمله.. ومع زوجته والأقارب والجيران مكرراً:
- أنا مش حادفع الجزية.. أنا مش حادفع الجزية.
يبدأ الجميع فى الضحك والسخرية منه.. ويتأكد لهم جميعاً أنه قد أصيب بالجنون.. فيوقف عن العمل.. وتذهب زوجته إلى الأسقف المسؤول عن ملفات الأحوال الشخصية بالكاتدرائية تطلب الطلاق لعلة الجنون.. لكنهم يؤكدون لها أنه لا طلاق إلا لعلة الزنى.
«5»
تتدهور حالة جرجس أكثر، بعد أن يقذفه أطفال الحى بالطوب، وهم يطاردونه مهللين ضاحكين.. وتغير زوجته الملة تمهيداً لخلعه.. حتى ينتهى به الأمر نزيلاً بمستشفى الأمراض العقلية.
نقلا عن المصرى اليوم