عادل نعمان
ليس من العدل لوم الأغنياء على تصرفاتهم، مهما توسعوا وأسرفوا وبعثروا وفردوا أيديهم على طول جيوبهم وعرض قدراتهم. وليس من حق أحد أن يصف تصرفات الأغنياء بالسفه أو الطيش، فما تراه أنت سفهاً ربما يراه غيرك رزانة، وما تعده أنت طيشاً أو حمقاً ربما يكون عند الغير رصانة وحصافة، وما يكون غلواً وبعزقة عند أحد يكون تقتيراً وشحاً عند غيره. وفى كل الأحوال، فهذا البذخ وهذا الترف وهذا الطيش فى الغالب يكون مصدراً للرزق ولقمة عيش للبسطاء وغيرهم.
وليست مراعاة الغنى للفقير أن يعيش كما يعيش، ويحيا كما يحيا، ويأكل مما يأكل، ويلبس مما يلبس، وعلى خطاه يسير. وليس للدولة عند الأغنياء سوى الضرائب والرسوم المقررة والمستحقة، يحددها ويقدّرها ويشرّعها ويقننها مجلسها النيابى، ويُخضعها لإرادته وسلطانه ورقابته واحتياجات الدولة، تزيد وتنقص حسب مواردها ومصارفها ونشاط وأرباح الناس، فإذا حصّلهتا كان ما بين الطرفين خالصاً مخلصاً، أدوا ما عليهم ووفوا. وليس للفقير على الغنى سوى الزكاة، يدفعها فى مصارفها كما يشاء ويقدّر، ويختار منها ما يرتاح ويطمئن إليه، ولا حساب عليه فى الدنيا إذا قصّر فيها، أو تهرّب منها، ولا رقيب عليه ولا محاسبة ولا سلطان من رجال الدين، وهى بينه وبين ربه، دون عين ترصد أو عداد يحسب أو مراقب يراقب من هنا أو هناك، لا إرادة تعلو إرادته، ولا تصرف يحجب تصرفه، وربما اكتفى بالضريبة محل الزكاة، وارتاح إلى هذه الفتوى، كما ارتحت أنا إليها. وليس هناك سلطان على الغنى يجبره على أداء الصدقات أو التبرعات، فإن تصدّق وتبرّع باليسير أو الكثير كان فضلاً منه، فى السر أو فى العلن، وكانت مندوحته وأجره وليس لغيره، يؤجر عليها إذا أداها، ولا حساب عليه إن تركها. هذه قواعد حاكمة مطمئنة بين الأطراف الثلاثة، الدولة وأغنيائها وفقرائها. لا سلطان على صاحب المال من أحد، ولا قوة تفرض عليه التزاماً إلا بقوة القانون، وما كان عنده لله سر لا يكشفه أحد. ما بينه وبين الدولة مكتوب ومقروء ويحاسب عليه كل عام، وما بينه وبين ربه مكتوم ومكنون يحاسب عليه نهاية العمر.
هذه الأولى، أما الثانية: لا ننسى أن كثيراً من الفقراء لهم دخل فى فقرهم، هم أحد أسبابه، كما كانوا وما زالوا إحدى أدواته، لا يتنازلون عنه، لقمة عيشهم فى فقرهم، يعرضونه بخبث ودهاء، يتكسبون منه، يألفونه ويتعايشون معه، وكأنك لو طلبت منهم المغادرة لرفضوا، ومنهم من قصّر فى حق نفسه، ومن تكاسل ورضى، واكتفى بالشكوى والبكاء، ومنهم من ورّث أولاده فقره وحاجته وأثقل نفسه بالأولاد وأحمالهم، فزادهم فقراً على فقر وحاجة على الأخرى، ولو كان قد حدد لنفسه عدداً يقدر عليه لكان الحال غير الحال والحاجة غير الحاجة. والقليل منهم كان الفقر من نصيبهم، هو قدرهم وهم قدره، يخرج الواحد منهما غاضباً متخاصماً مع الآخر، رافضاً صحبته متمرداً عليه، كارهاً أنفاس الآخر، لكن ما إن يمد كل منهما يده فى الظلام يتحسس رفيقاً آخر، إلا ويتلامسان وكأن الدنيا قد خلت عليهما، من هذا الذى قسم الفقر وجعله من نصيبه، لا يفارقه ولا يقدر عليه؟ هو حظه ونصيبه وسوء بخت لا فكاك منه، الفقر والغنى بأيدينا بدايتهما، ولله فى جهد الناس شئون.
نسيت أن أقول لكم إننى لست محسوباً على أى من الفريقين، فلست نصيراً للفقراء، أبحث لهم عن صدقة من هنا وكفالة من هناك، أو قطعة لحم فى عيد أو لباس فى الآخر، إلا أننى أدفع الناس دفعاً للتبرع للمستشفيات لعلاجهم والمدارس لتعليمهم وتربيتهم فقط، نعلمهم ونعالجهم ونلحقهم بطوابير العمل دون تسول أو تنطع أو تكاسل. ولست محسوباً على فصائل الأغنياء، أدافع عنهم ضد هجوم الفقراء، لبسوا وخلعوا وأكلوا وشربوا ورقصوا فى حفلة «جينفر لوبيز» وارتدوا الملابس البيضاء، وخلعوا ملابس العمل، وسافروا للفسحة هنا وهناك. ولست فاصلاً أو حاجزاً بين غل فريق واستهجان آخر، أو بُغض فرقة وتوجس الأخرى، أو مطالبة فصيل بما لا حق لهم فيه، ورفض الآخر وصيانته لماله، وهى عادة السياسيين حين يؤلبون الفقراء على الأغنياء، لعبة «التأليب» والانشغال، وصرف الناس عن مطالبهم وحقوقهم إلى الوقوف فى طريق الأغنياء يطالبون بما ليس لهم الحق فيه، فيفلت الحكام من المساءلة والحساب، لكنى أعدل بينهما بالحق، كل لما له الحق فيه، ولا يجور أحد على نصيب الآخر.
لا ترحموا الأغنياء من سداد مستحقات الدولة، هذا حق الدولة، فلا تحد ولا تتكاسل عنه، ولينعم الأغنياء بما يملكون، ويتوسعوا بما رحبت عليهم، فهو رزق للغير وفير، وعلى الفقراء ألا يتوسعوا فى «الخلفة»، فهى ليست -كما يزعم رجال الدين- تأتى بالدعاء، فالرزق بالعمل وليس بالرجاء، ولو كان الأمر كذلك لكنا أسعد حالاً وحظاً من اليابانيين والصينيين، «فرب هنا رب هناك» وعليهم أن يحسنوا العشرة مع الأغنياء، فهذا قدرهم ورزقهم دون غل أو كره أو حسد، فلو زالت عنهم لجاعوا، اللهم لا حسد.
نقلا عن الوطن