فى مثل هذا اليوم 16 اغسطس 1987م..
توفى رودلف هس نائب الزعيم النازي أدولف هتلر ، وقد قضى أكثر من 40 عاماً في السجن بسبب هزيمة ألمانيا أمام الحلفاء
فالتر ريتشارد رودولف هس (26 أبريل 1894 - 17 أغسطس 1987) من أعلام ألمانيا النازية كنائب هتلر في الحزب النازي.
في بداية الحرب مع الاتحاد السوفيتى في الحرب العالمية الثانية، قام بعمل شجاع رغم أنه كان نائبا لأدولف هتلر ، اذ سافر إلى اسكتلندا سرا بالطائرة لتقدبم اقتراح سلام مع إنجلترا وهبط سرا بالمظلة (البراشوت) لكن تم القبض عليه و تمت محاكمته في نورنبيرغ والحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
أصبح محل احترام وتقدير كبيرين بين مؤيدى النازية ومعادي السامية في العالم.
فرتز هيس ، والد رودلف هيس.
أجواء البهجة تعم منزل التاجر الألماني ريتشارد رودولف هس، بمدينة زفتى بمحافظة الغربية، في الـ26 من أبريل 1894، والمنزل يكتظ بالمهنئين من أصدقائه المصريين، فاليوم يوم فرح واحتفال، رزق فيه الألماني بمولود أطلق عليه اسم «فالتر»، أدخل السعادة على قلب أمه وأبيه وربما البلدة بأكملها، إلا أن جمع المهنئين لم يدركوا أن هذا الطفل الوليد كما حمل السعادة لأهله سيحمل في قلبه قسوة وبؤس وعزاب لملايين، وسيصبح يومًا ما نائبًا لــ«زعيم الشر».
كان والد «فالتر» يعيش في مصر منذ سنوات، واختار أن يقيم أعماله في مدينة زفتى تحديدًا، حيث امتلك فيلا وورشة تصنيع وتصليح الآلات الزراعية ومعدات محالج القطن، بالإضافة إلى محلجًا للقطن ووابورين للطحين، ومزرعة مساحتها 93 فدان ناحية كفر الجنيدي.
وولد نجله «فالتر» وكبر في المدينة وسط فلاحيها، وكان مولعًا بالتاريخ وقراءته ودراسته، إلا أن والده كان يخشى ضياع الثروة والأعمال، تلك التي أفنى عمره في صنعها. وفشلت كل محاولات الصبي «فالتر»، ابن الـ14 عامًا، في إقناع أبيه برغبته لينصاع في نهاية الأمر لرغبة والده، إلا أن الأمر لا يقتصر فقط على نوعية الدراسة بل مكانها أيضًا، فقد أصبح على المراهق الصغير أن يترك أهله والبلد التي تربى بها خلفه ويتجه إلى سويسرا للدراسة، ليبدأ فصلا جديدا في حياة «فالتر»، أو من اختصر اسمه لاحقًا وأصبح يعرف فقط بـ«رودولف هس».
مرت السنوات وأصبحنا على مشارف عام 1914، طبول الحرب تدق في أوروبا، تبدو حربًا عالمية في الأفق، حين جلس «هس» يحتسي الجعة مع أصدقاءه، ولا حديث في البار إلا عن الحرب، شباب متحمسون للمشاركة وآخرون يخشون مواجهة الرصاص، أما الشاب الألماني، فكان قد اتخذ القرار النهائي، إن لم يقدر لي أن أدرس التاريخ فسأشارك في صنعه.
أصوات الانفجارات تتعالى، هل حان وقت الموت يا أمي، الذكريات تطارد رأس الشاب ذو الـ19 عامًا، يتذكر تلك الأيام الأخيرة التي قضاها في مدينة زفتى المحببة لقلبه، وسط عائلته، قبل عامين، الخضرة والمزارعين، الكلمات العربية التي يفهمها جيدًا، طيبة المصريين، لا طيبة هنا ولا رأفة، فقط رائحة الموت تملأ الأرض والسماء، ربما كانت تلك الزيارة الأخيرة لزفتى هي الوداع، وداعًا للأهل والأحباب والأصحاب، أصوات الرصاص والانفجارات تقترب أكثر والقلب يدق أسرع، ولحظة واحدة على فيها صوت انفجار وصرخة وصمتوا كلاهما سريعًا، وانطفأت الأنوار في عقل «هس».
فتح «هس» عينيه محاولًا إدراك ما يحدث حوله، يسمع تآوهات وأصوات نساء تواسيها، يدرك الآن أنه قد أصيب في الحرب، ويرقد بأحد المستشفيات الميدانية، يبدو أن النهاية لم تحن بعد وأن النجاة كانت مصيره، ذلك المصير الذي ندم عليه كثيرون بعد ذلك وتمنوا لو أنه راح في المعركة كملايين غيره، إلا أن ملك الموت لم يؤمر بعد بقبض روحه.
وبينما تعافى «هس» الابن من الإصابة، لم يكن يعلم أن أبيه، الذي هرب من تسلطه ورغبته في إرغامه على العمل في تجارته إلى الحرب، كان قد علق في ألمانيا هو الآخر، بعد أن قامت الحرب العالمية الأولى، وخسر كل شيء بعد أن صادرت بريطانيا كل أملاكه في زفتى.
وانتهت الحرب، وانضم الطيار، الذي أصيب مرتين، إلى حزب «فريكوربز» اليميني الذي كونه جنود سابقين، وشارك مع أبناء حزبه في قمع انتفاضات الاشتراكيين الألمان بالقوة والعنف، والتحق الشاب بجامعة ميونخ، بإقليم بافاريا، بألمانيا، ليدرس هذه المرة العلوم السياسية، قبل أن ينضم لمنظمة معادية للسامية تؤمن بأفضلية أبناء العرق الآري، كما تأثر في تلك الأثناء بالبروفيسور كارل هاوسهوفر، وهو جنرال سابق قامت أفكاره في التمدد والعرقية «تمدد مكان العيش الألماني على حساب الشعوب الآخرى».
عامان مروا منذ انتهت الحرب، تلك التي غيرت الكثير والكثير في جموع البشر، ولم يكن «هس» استثناءً، واليوم، الأول من يوليو 1920، يجلس في حانة يحتسي جعته المفضلة، يستمع إلى رجل يبدو كلامه حماسيًا وملهمًا، يدعو هذا الرجل لحزب أسماه الحزب النازي، أفكاره لا تبدو سيئة جدًا بالنسبة له.
أعتقد أنني وجدت ما أبحث عنه، هكذا جالت الأفكار بخاطره، وكلام هذا الرجل، ذو الشعر البني المصفف على جانبه فيما ينسدل منه خصلات بسيطة على جبهته ويزين وجهه شارب صغير، يدخل إلى القلب ويدغدغ المشاعر، سأنضم إليه تلك هي الأفكار التي تناسبني...
التحق «هس» بالحزب النازي، وكان العضو رقم 16، ومن حينها وأصبح صاحب الـ26 عامًا، مساعدًا وفيًا لقائده، الذي لم يعرف اسمه قبل أن يسمع كلامه في الحانة، إلا أنه ومنذ تطرق إلى مسامعه لم ينسه أبدًا، أدولف هتلر.
جلس «هس» يتهامس مع زعيمه «هتلر» على أرض زنزانتهم الباردة بسجن لاندسبرج، عام 1923، ما الذي حدث؟ لما فشلنا؟ كانت الخطة تبدو محكمة، إلا أن الأمر لم يجري كما خطط له؟، كانت كلها تساؤلات يبحثان لها عن إجابة بعد فشل خطة أعدها هتلر للانقلاب والاستيلاء على الحكم في بافاريا، وكان «هس»، كعادته منذ انضم للحزب، متحمسًا لأفكار الزعيم، ومساندًا له في كل خطواته، تلك التي رمت بهم في غياهيب السجون. ورغم ما حدث، إلا أن الثنائي استغل الوقت في السجن، فقرر «هتلر» أن يكتب كتابًا سماه «كفاحي»، حرره له مساعده «هس»...
خرج «هس» وزعيمه من السجن عام 1925، وأصبح السكرتير الخاص لقائد الحزب النازي، رغم عدم حصوله على منصب قيادي في الحزب نفسه، وفي نفس العام، عاد والده إلى المدينة التي أبعدوه عنها عنوة، زفتى، واستطاع أن يعيد ممتلكاته، التي قال «هس»، حسب وثائق، أن الإنجليز «قرصنوا» عليها.
ومع الأيام والشهور والسنوات، ازدادت ثقة الزعيم في سكرتيره وعينه رئيسًا للجنة السياسية المركزية للحزب النازي، عام 1932، قبل أن يصبح نائبًا للفوهرر لاحقًا بعد تسلم «هتلر» الحكم. وعرف عن «هس» طاعته العمياء لزعيمه، حتى أنه قال يومًا: «بكل فخر نرى أن رجل واحد فقط يبقى خارج نطاق النقد، وهو الفوهرر، هذا لأن الجميع يشعر ويعلم أنه على حق، ودائمًا سيبقى على حق».
طبول الحرب تدق مجددًا في أوروبا، العالم على موعد مع حرب عالمية جديدة، جلس نائب الفوهرر، رودولف هس، في مكتبه يفكر في مصير أبيه الذي لا يزال يعيش في مصر، ليس ببعيدًا عن قبضة الإنجليز، كيف يستطيع أن ينقذ والده من مصير يعلم تمامًا أنه قد يكون أسوء مما يتصور أحدًا، كمال الدين جلال، نعم هذا هو الحل، صديقه المصري بالتأكيد سيساعده.
استدعى «هس» صديقه «جلال»، قبل أيام من بدأ الحرب، ليحمله رسالة إلى الحكومة المصرية برئاسة على باشا ماهر، قال فيها: «أنت تعرف أنني ولدت عندكم في مصر وأنا أحب مصر والمصريين فقد عشت في بلادكم أيام طفولتي وأريدك أن تتصل بسفيركم في بروكسل لينقل إلى القاهرة، أملي أن تسهل الحكومة المصرية سفر والدي ووالدتي، وكذلك بعض الألمان الذين احتجزتهم الحرب ليعودوا إلى بلادهم». واستجابت الحكومة المصرية لطلب نائب الفوهرر وبالفعل سافرت أسرته على آخر باخرة ألمانية غادرت الموانئ المصرية.
اندلعت الحرب، واجتاحت ألمانيا البلد تلو الآخرى، إلا أن ألمانيا كانت تحارب على كل الجبهات، ورغم كل المناصب التي ترقى فيها «هس» إلا أنه لم يكن أبدًا صاحب قرار حاسم في دولة «هتلر»، لكن هداه فكره في قلب براثن الحرب وشدتها، أن يحقق نصرًا دبلوماسيًا ويعقد معاهدة سلام مع إنجترا، تجعل الألمان يتفرغون لحرب السوفيت على الجبهة الآخرى، ليقرر أن يذهب إلى قلب بلاد العدو لإقناعهم بنفسه بالسلام.
ضربت الرياح الباردة وجه صاحب الـ47 عامًا وهو يفتح باب الطائرة الألمانية التابعة لسلاح الجو فوق الأراضي البريطانية، كان قد قرر أن يقفز بمظلته قرب منزل دوق هاميلتون ليطرح عليه اقتراحه بالسلام، ولم يعلم وهو يقفز خارج باب الطائرة الألمانية أن السلام بعيد تمامًا عن متناوله، بل كان هو في متناول الجيش البريطاني.
قبض على «هس» بعد هبوطه على الأرض البريطانية، وتبقى تفاصيل القبض عليه غامضة، وتضاربت فيها الأقاويل، إلا أن ما عرف عن تلك اللحظات أن الضباط البريطانيون رأوا أن «هس» غير متوازن عقليًا، واعتقدوا أنه «نصف مجنون»، واعتقد رئيس الوزراء البريطاني، وينستون تشيرشيل، أن «هس» يتحدث باسم نفسه فقط، ليأمر بإيداعه السجن، ومعاملته معاملة أسرى الحرب أصحاب الرتب العالية.
أما «هتلر» فقد جن جنونه حين علم بما فعله نائبه، واعتقل كل مساعدي «هس»، وقال إن نائبه قد أصابه الجنون، وبرر «هس» نفسه فعلة «هتلر» قائلًا إنها خطة معدة مسبقًا للتغطية على الفشل الدبلوماسي.
انتهت الحرب، عام 1945، وانتحر «هتلر»، واقتيد «هس» إلى محاكمات «نيورنبيرج» الشهيرة، ليجلس بجوار زملائه من قادة النازية، الذي لم يراهم منذ أربعة سنوات، حين كان الحال غير الحال، واعترف بإشرافه على إبادة اليهود في المحارق، إلا أنه غير نادم على ما فعله، هذا ما ردده في قاعة المحكمة: «أنا لست نادمًا.. وإن عاد بي الوقت كنت لأفعل ما فعلت حتى إن كنت أعلم أن هذه هي النهاية»، ليتم الحكم عليه بالإعدام، إلا أن التشخيص بأنه غير متوازن نفسيًا أنقذه من الموت، ليخفف الحكم إلى السجن مدى الحياة.
أربعة عقود من الزمان مضت، ولم يتغير شيئًا، لا يزال يجلس الرجل العجوز «هس» داخل السجن يدفع ثمن انصياعه لهتلر، حاول من قبل الانتحار، وهو في قبضة البريطانيين، عام 1941، إلا أن الموت لم يكن حان وقته بعد، وحاول مجددًا في سجنه، عام 1977، ولم يأت ملك الموت أيضًا، واليوم، في الـ16 من أغسطس 1987، هي الثالثة، اليوم ألقى الموت حتمًا، فكم مرة يهرب مني وأنا لا أهرب منه، أصبت في الحرب ولم أمت، حاولت الانتحار ولم أمت، حكم على بالإعدام ولم أعدم، كفا هربًا أيها الموت، اليوم موعد اللقاء ولا بديل عنه، يربط صاحب الـ93 عامًا السلك الكهربائي على رقبته بشدة وتخرج الأنفاس الأخيرة من جسده، وتنتهي حياته، تلك التي بدأت في قلب الحقول المصرية، وربما تمنى يومًا لو أنه ظل هناك.!!